تفسير الطبري سورة البروج
سورة البروج كاملة بالتشكيل
وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلۡبُرُوجِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡمَوۡعُودِ وَشَاهِدٖ وَمَشۡهُودٖ قُتِلَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡأُخۡدُودِ ٱلنَّارِ ذَاتِ ٱلۡوَقُودِ إِذۡ هُمۡ عَلَيۡهَا قُعُودٞ وَهُمۡ عَلَىٰ مَا يَفۡعَلُونَ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ شُهُودٞ وَمَا نَقَمُواْ مِنۡهُمۡ إِلَّآ أَن يُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَمِيدِ ٱلَّذِي لَهُۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ إِنَّ ٱلَّذِينَ فَتَنُواْ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ ثُمَّ لَمۡ يَتُوبُواْ فَلَهُمۡ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمۡ عَذَابُ ٱلۡحَرِيقِ إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَهُمۡ جَنَّٰتٞ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۚ ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡكَبِيرُ إِنَّ بَطۡشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُۥ هُوَ يُبۡدِئُ وَيُعِيدُ وَهُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلۡوَدُودُ ذُو ٱلۡعَرۡشِ ٱلۡمَجِيدُ فَعَّالٞ لِّمَا يُرِيدُ هَلۡ أَتَىٰكَ حَدِيثُ ٱلۡجُنُودِ فِرۡعَوۡنَ وَثَمُودَ بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي تَكۡذِيبٖ وَٱللَّهُ مِن وَرَآئِهِم مُّحِيطُۢ بَلۡ هُوَ قُرۡءَانٞ مَّجِيدٞ فِي لَوۡحٖ مَّحۡفُوظِۭ
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى جل ثناؤه وتقدست أسماؤه : ( والسماء ذات البروج ( 1 ) واليوم الموعود ( 2 ) وشاهد ومشهود ( 3 ) قتل أصحاب الأخدود ( 4 ) النار ذات الوقود ( 5 ) ) .
قال أبو جعفر رحمه الله : قوله : ( والسماء ذات البروج ) أقسم الله جل ثناؤه بالسماء ذات البروج .
واختلف أهل التأويل في معنى البروج في هذا الموضع ، فقال بعضهم : عني بذلك : والسماء ذات القصور . قالوا : والبروج : القصور .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ( والسماء ذات البروج ) قال ابن عباس : قصور في السماء ، قال غيره : بل هي الكواكب .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( البروج ) يزعمون أنها قصور في السماء ، ويقال : هي الكواكب .
وقال آخرون : عني بذلك : والسماء ذات النجوم ، وقالوا : نجومها : بروجها .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : ( ذات البروج ) قال : البروج : النجوم . [ ص: 332 ]
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ( والسماء ذات البروج ) قال : النجوم .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( والسماء ذات البروج ) وبروجها : نجومها .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : والسماء ذات الرمل والماء .
ذكر من قال ذلك :
حدثني الحسن بن قزعة ، قال : ثنا حصين بن نمير ، عن سفيان بن حسين ، في قوله : ( والسماء ذات البروج ) قال : ذات الرمل والماء .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : معنى ذلك : والسماء ذات منازل الشمس والقمر ، وذلك أن البروج جمع برج ، وهي منازل تتخذ عالية عن الأرض مرتفعة ، ومن ذلك قول الله : ( ولو كنتم في بروج مشيدة ) هي منازل مرتفعة عالية في السماء ، وهي اثنا عشر برجا ، فمسير القمر في كل برج منها يومان وثلث ، فذلك ثمانية وعشرون منزلا ثم يستسر ليلتين ، ومسير الشمس في كل برج منها شهر .
وقوله : ( واليوم الموعود ) يقول تعالى ذكره : وأقسم باليوم الذي وعدته عبادي لفصل القضاء بينهم ، وذلك يوم القيامة .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، وجاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن نمير وإسحاق الرازي ، عن موسى بن عبيدة ، عن أيوب بن خالد ، عن عبد الله بن رافع ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” اليوم الموعود : يوم القيامة ” .
قال : ثنا وكيع ، عن موسى بن عبيدة ، عن أيوب بن خالد ، عن عبد الله بن رافع ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، مثله .
حدثنا يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، قال : ثنا يونس ، قال : أنبأني عمار ، قال : قال أبو هريرة : “اليوم الموعود : يوم القيامة” . قال يونس ، وكذلك الحسن . [ ص: 333 ]
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( واليوم الموعود ) يعني : يوم القيامة .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( واليوم الموعود ) قال : القيامة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : ( اليوم الموعود ) يوم القيامة .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن يونس بن عبيد ، عن عمار بن أبي عمار ، مولى بني هاشم ، عن أبي هريرة ( واليوم الموعود ) يوم القيامة .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن موسى بن عبيدة ، عن أيوب بن خالد ، عن عبد الله بن رافع ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : ” اليوم الموعود : يوم القيامة ” .
حدثنا محمد بن عوف ، قال : ثنا محمد بن إسماعيل بن عياش ، قال : ثني أبي ، قال : ثني ضمضم بن زرعة ، عن شريح بن عبيد ، عن أبي مالك الأشعري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” ( اليوم الموعود ) يوم القيامة” .
وقوله : ( وشاهد ومشهود ) اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : وأقسم بشاهد ، قالوا : وهو يوم الجمعة ، ومشهود قالوا : وهو يوم عرفة .
ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب قال : أخبرنا ابن علية ، قال : أخبرنا يونس ، قال : أنبأني عمار ، قال : قال أبو هريرة : الشاهد : يوم الجمعة ، والمشهود : يوم عرفة; قال يونس ، وكذلك قال الحسن .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، قال : سمعت حارثة بن مضرب ، يحدث عن علي رضي الله عنه أنه قال في هذه الآية ( وشاهد ومشهود ) قال : يوم الجمعة ، ويوم عرفة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ( وشاهد ومشهود ) قال : الشاهد يوم الجمعة ، [ ص: 334 ] والمشهود : يوم عرفة; ويقال : الشاهد : الإنسان ، والمشهود : يوم القيامة .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( وشاهد ومشهود ) : يومان عظيمان من أيام الدنيا ، كنا نحدث أن الشاهد يوم الجمعة ، والمشهود يوم عرفة .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( وشاهد ومشهود ) قال : الشاهد : يوم الجمعة ، والمشهود : يوم عرفة .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي رضي الله عنه : ( وشاهد ومشهود ) قال : الشاهد يوم الجمعة ، والمشهود : يوم عرفة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وشاهد ) يوم الجمعة ، ( ومشهود ) : يوم عرفة .
حدثنا أبو كريب ، قال ثنا وكيع ، عن موسى بن عبيدة ، عن أيوب بن خالد ، عن عبد الله بن رافع ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” وشاهد : يوم الجمعة ، ومشهود : يوم عرفة ” .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن نمير وإسحاق الرازي ، عن موسى بن عبيدة ، عن أيوب بن خالد ، عن عبد الله بن رافع ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” المشهود : يوم عرفة ، والشاهد : يوم الجمعة ” .
حدثنا سهل بن موسى ، قال : ثنا ابن أبي فديك ، عن ابن حرملة ، عن سعيد أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “إن سيد الأيام يوم الجمعة ، وهو الشاهد ، والمشهود : يوم عرفة ” .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن موسى بن عبيد ، عن أيوب بن خالد ، عن عبد الله بن رافع عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” المشهود : يوم عرفة ، والشاهد : يوم الجمعة ، فيه ساعة لا يوافقها مؤمن يدعو الله بخير إلا استجاب له ، ولا يستعيذه من شر إلا أعاذه ” .
حدثني محمد بن عوف ، قال : ثنا محمد بن إسماعيل ، قال : ثني أبي ، قال : ثني ضمضم بن زرعة ، عن شريح بن عبيد ، عن أبي مالك الأشعري ، قال : قال [ ص: 335 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” إن الشاهد يوم الجمعة ، وإن المشهود يوم عرفة ، فيوم الجمعة خيرة الله لنا” .
حدثني سعيد بن الربيع الرازي ، قال : ثنا سفيان ، عن عبد الرحمن بن حرملة ، عن سعيد بن المسيب ، قال : سيد الأيام يوم الجمعة ، وهو شاهد .
وقال آخرون : الشاهد : محمد ، والمشهود : يوم القيامة .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا وكيع ، عن شعبة ، عن علي بن زيد ، عن يوسف المكي ، عن ابن عباس قال : الشاهد : محمد ، والمشهود : يوم القيامة ، ثم قرأ ( ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود ) .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن مغيرة ، عن شباك ، قال : سأل رجل الحسن بن علي ، عن ( وشاهد ومشهود ) قال : سألت أحدا قبلي؟ قال : نعم ، سألت ابن عمر وابن الزبير ، فقالا يوم الذبح ويوم الجمعة; قال : لا ولكن الشاهد : محمد ، ثم قرأ : ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) والمشهود : يوم القيامة ، ثم قرأ : ( ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود ) .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن جابر ، عن أبي الضحى ، عن الحسن بن علي ، قال : الشاهد : محمد ، والمشهود : يوم القيامة .
حدثني سعيد بن الربيع ، قال : ثنا سفيان ، عن عبد الرحمن بن حرملة ، عن سعيد بن المسيب : ( ومشهود ) : يوم القيامة .
وقال آخرون : الشاهد : الإنسان ، والمشهود : يوم القيامة .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عبيد المحاربي ، قال : ثنا أسباط ، عن عبد الملك ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( وشاهد ومشهود ) قال : الشاهد : ابن آدم ، والمشهود : يوم القيامة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( وشاهد ومشهود ) قال : الإنسان ، وقوله : [ ص: 336 ] ( ومشهود ) قال : يوم القيامة .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، قال : الشاهد : الإنسان ، والمشهود : يوم القيامة .
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن خالد الحذاء ، عن عكرمة ، في قوله : ( وشاهد ومشهود ) قال : شاهد : ابن آدم ، ومشهود : يوم القيامة .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( وشاهد ) يعني : الإنسان ( ومشهود ) يوم القيامة ، قال الله : ( وذلك يوم مشهود ) .
وقال آخرون : الشاهد : محمد ، والمشهود : يوم الجمعة .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة ، في قوله : ( وشاهد ومشهود ) قال : الشاهد : محمد ، والمشهود : يوم الجمعة ، فذلك قوله : ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) .
وقال آخرون : الشاهد : الله ، والمشهود : يوم القيامة .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، في قوله : ( وشاهد ) يقول : الله ( ومشهود ) يقول : يوم القيامة .
وقال آخرون : الشاهد : يوم الأضحى ، والمشهود : يوم الجمعة .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن مغيرة ، عن شباك ، قال : سأل رجل الحسن بن علي ، عن ( شاهد ومشهود ) قال : سألت أحدا قبلي؟ قال : نعم ، سألت ابن عمر وابن الزبير ، فقالا : يوم الذبح ، ويوم الجمعة .
وقال آخرون : الشاهد : يوم الأضحى ، والمشهود : يوم عرفة .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن [ ص: 337 ] مجاهد ، عن ابن عباس : ( وشاهد ومشهود ) قال : الشاهد : يوم عرفة ، والمشهود : يوم القيامة .
وقال آخرون : المشهود : يوم الجمعة ، ورووا ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ذكر الرواية بذلك :
حدثنا أحمد بن عبد الرحمن ، قال : ثني عمي عبد الله بن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحارث ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن زيد بن أيمن ، عن عبادة بن نسي ، عن أبي الدرداء ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “أكثروا علي الصلاة يوم الجمعة ، فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة” .
والصواب من القول في ذلك عندنا : أن يقال : إن الله أقسم بشاهد شهد ، ومشهود شهد ، ولم يخبرنا مع إقسامه بذلك أي شاهد وأي مشهود أراد ، وكل الذي ذكرنا أن العلماء قالوا : هو المعني مما يستحق أن يقال له : ( شاهد ومشهود ) .
وقوله : ( قتل أصحاب الأخدود ) يقول : لعن أصحاب الأخدود . وكان بعضهم يقول : معنى قوله : ( قتل أصحاب الأخدود ) خبر من الله عن النار أنها قتلتهم .
وقد اختلف أهل العلم في أصحاب الأخدود ; من هم؟ فقال بعضهم : قوم كانوا أهل كتاب من بقايا المجوس .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب القمي ، عن جعفر عن ابن أبزى ، قال : لما رجع المهاجرون من بعض غزواتهم ، بلغهم نعي عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقال بعضهم لبعض : أي الأحكام تجري في المجوس ، وإنهم ليسوا بأهل كتاب ، وليسوا من مشركي العرب ، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : قد كانوا أهل كتاب ، وقد كانت الخمر أحلت لهم ، فشربها ملك من ملوكهم حتى ثمل منها ، فتناول أخته فوقع عليها ، فلما ذهب عنه السكر قال لها : ويحك ، فما المخرج مما ابتليت به؟ فقالت : اخطب الناس ، فقل : يأيها الناس إن الله قد أحل نكاح الأخوات ، فقام خطيبا ، فقال : يأيها الناس إن الله قد أحل نكاح الأخوات ، فقال الناس : إنا نبرأ [ ص: 338 ] إلى الله من هذا القول ، ما أتانا به نبي ، ولا وجدناه في كتاب الله ، فرجع إليها نادما ، فقال لها : ويحك ، إن الناس قد أبوا علي أن يقروا بذلك ، فقالت : ابسط عليهم السياط ، ففعل ، فبسط عليهم السياط ، فأبوا أن يقروا ، فرجع إليها نادما ، فقال : إنهم أبوا أن يقروا ، فقالت : اخطبهم ، فإن أبوا فجرد فيهم السيف ، ففعل ، فأبى عليه الناس ، فقال لها : قد أبى علي الناس ، فقالت : خد لهم الأخدود ، ثم اعرض عليها أهل مملكتك ، فمن أقر وإلا فاقذفه في النار ، ففعل ، ثم عرض عليها أهل مملكته ، فمن لم يقر منهم قذفه في النار ، فأنزل الله فيهم : ( قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود ) إلى ( أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ) حرقوهم ( ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق ) فلم يزالوا منذ ذلك يستحلون نكاح الأخوات والبنات والأمهات .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( قتل أصحاب الأخدود ) قال : حدثنا أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يقول : هم ناس بمزارع اليمن ، اقتتل مؤمنوها وكفارها ، فظهر مؤمنوها على كفارها ، ثم اقتتلوا الثانية ، فظهر مؤمنوها على كفارها ثم أخذ بعضهم على بعض عهدا ومواثيق أن لا يغدر بعضهم ببعض ، فغدر بهم الكفار فأخذوهم أخذا ، ثم إن رجلا من المؤمنين قال لهم : هل لكم إلى خير ، توقدون نارا ثم تعرضوننا عليها ، فمن تابعكم على دينكم فذلك الذي تشتهون ، ومن لا اقتحم النار ، فاسترحتم منه ، قال : فأججوا نارا وعرضوا عليها ، فجعلوا يقتحمونها صناديدهم ، ثم بقيت منهم عجوز كأنها نكصت ، فقال لها طفل في حجرها : يا أماه امضي ولا تنافقي . قص الله عليكم نبأهم وحديثهم .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( قتل أصحاب الأخدود ) قال : يعني القاتلين الذين قتلوهم يوم قتلوا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود ) قال : هم ناس من بني إسرائيل خدوا أخدودا في الأرض ، ثم أوقدوا فيها نارا ، ثم أقاموا على ذلك الأخدود رجالا ونساء ، فعرضوا عليها ، وزعموا أنه دانيال وأصحابه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني [ ص: 339 ] الحارث ، قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( قتل أصحاب الأخدود ) قال : كان شقوق في الأرض بنجران كانوا يعذبون فيها الناس .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( قتل أصحاب الأخدود ) يزعمون أن أصحاب الأخدود من بني إسرائيل ، أخذوا رجالا ونساء ، فخدوا لهم أخدودا ، ثم أوقدوا فيها النيران ، فأقاموا المؤمنين عليها ، فقالوا : تكفرون أو نقذفكم في النار .
حدثني محمد بن معمر ، قال : ثني حرمي بن عمارة ، قال : ثنا حماد بن سلمة ، قال : ثنا ثابت البناني ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن صهيب ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “كان فيمن كان قبلكم ملك ، وكان له ساحر ، فأتى الساحر الملك فقال : قد كبرت سني ، ودنا أجلي ، فادفع لي غلاما أعلمه السحر ” ، قال : ” فدفع إليه غلاما يعلمه السحر ” ، قال : ” فكان الغلام يختلف إلى الساحر ، وكان بين الساحر وبين الملك راهب ” ، قال : ” فكان الغلام إذا مر بالراهب قعد إليه فسمع من كلامه ، فأعجب بكلامه ، فكان الغلام إذا أتى الساحر ضربه وقال : ما حبسك؟ وإذا أتى أهله قعد عند الراهب يسمع كلامه ، فإذا رجع إلى أهله ضربوه وقالوا : ما حبسك؟ فشكا ذلك إلى الراهب فقال له الراهب : إذا قال لك الساحر : ما حبسك؟ قل حبسني أهلي ، وإذا قال أهلك : ما حبسك؟ فقل حبسني الساحر . فبينما هو كذلك إذ مر في طريق وإذا دابة عظيمة في الطريق قد حبست الناس لا تدعهم يجوزون ، فقال الغلام : الآن أعلم : أمر الساحر أرضى عند الله أم أمر الراهب؟ قال : فأخذ حجرا ” ، قال : فقال : ” اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر ، فإني أرمي بحجري هذا فيقتله ويمر الناس ، قال : فرماها فقتلها ، وجاز الناس; فبلغ ذلك الراهب ” ، قال : وأتاه الغلام فقال الراهب للغلام : إنك خير مني ، وإن ابتليت فلا تدلن علي ” ; قال : ” وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص وسائر الأدواء ، وكان للملك جليس ، قال : فعمي ، قال : فقيل له : إن هاهنا غلاما يبرئ الأكمه والأبرص وسائر الأدواء فلو أتيته؟ قال : ” فاتخذ له هدايا ” ; قال : ” ثم أتاه فقال : يا غلام ، إن أبرأتني فهذه الهدايا كلها لك ، فقال : ما أنا بطبيب يشفيك ، ولكن الله يشفي ، فإذا آمنت دعوت الله أن يشفيك ” ، قال : ” فآمن [ ص: 340 ] الأعمى ، فدعا الله فشفاه ، فقعد الأعمى إلى الملك كما كان يقعد ، فقال له الملك : أليس كنت أعمى؟ قال : نعم ، قال : فمن شفاك؟ قال : ربي ، قال : ولك رب غيري؟ قال : نعم ربي وربك الله ” ، قال : ” فأخده بالعذاب فقال : لتدلني على من علمك هذا ” ، قال : ” فدل على الغلام ، فدعا الغلام فقال : ارجع عن دينك ” ، قال : ” فأبى الغلام ” ; قال : فأخذه بالعذاب ” ، قال : ” فدل على الراهب ، فأخذ الراهب فقال : ارجع عن دينك فأبى ” ، قال : ” فوضع المنشار على هامته فشقه حتى بلغ الأرض ” ، قال : ” وأخذ الأعمى فقال : لترجعن أو لأقتلنك ” ، قال : ” فأبى الأعمى ، فوضع المنشار على هامته فشقه حتى بلغ الأرض ، ثم قال للغلام : لترجعن أو لأقتلنك ” ، قال : ” فأبى ” ، قال : ” فقال : اذهبوا به حتى تبلغوا به ذروة الجبل ، فإن رجع عن دينه ، وإلا فدهدهوه ، فلما بلغوا به ذروة الجبل فوقعوا فماتوا كلهم . وجاء الغلام يتلمس حتى دخل على الملك ، فقال : أين أصحابك؟ قال : كفانيهم الله . قال : فاذهبوا به فاحملوه في قرقور فتوسطوا به البحر ، فإن رجع عن دينه وإلا فغرقوه ” قال : ” فذهبوا به ، فلما توسطوا به البحر قال الغلام : اللهم اكفنيهم ، فانكفأت بهم السفينة . وجاء الغلام يتلمس حتى دخل على الملك ، فقال الملك : أين أصحابك؟ قال : دعوت الله فكفانيهم ، قال : لأقتلنك ، قال : ما أنت بقاتلي حتى تصنع ما آمرك ” ، قال : ” فقال الغلام للملك : اجمع الناس في صعيد واحد ، ثم اصلبني ، ثم خذ سهما من كنانتي فارمني وقل : باسم رب الغلام فإنك ستقتلني ” ، قال : ” فجمع الناس في صعيد واحد ” ، قال : ” وصلبه وأخذ سهما من كنانته فوضعه في كبد القوس ثم رمى ، فقال : باسم رب الغلام ، فوقع السهم في صدغ الغلام ، فوضع يده هكذا على صدغه ومات الغلام ، فقال الناس : آمنا برب الغلام ، فقالوا للملك : ما صنعت ! الذي كنت تحذر قد وقع ، قد آمن الناس ، فأمر بأفواه السكك فأخذت ، وخد الأخدود وضرم فيه النيران ، وأخذهم وقال : إن رجعوا وإلا فألقوهم في النار ” ، قال : ” فكانوا يلقونهم في النار ” ، قال : ” فجاءت امرأة معها صبي لها ” ، قال : ” فلما ذهبت تقتحم وجدت حر النار ، فنكصت ” ، قال : ” فقال [ ص: 341 ] لها صبيها يا أماه امضي فإنك على الحق ، فاقتحمت في النار” .
وقال آخرون : بل الذين أحرقتهم النار هم الكفار الذين فتنوا المؤمنين .
ذكر من قال ذلك :
حدثت عن عمار ، عن عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، قال : كان أصحاب الأخدود قوما مؤمنين اعتزلوا الناس في الفترة ، وإن جبارا من عبدة الأوثان أرسل إليهم ، فعرض عليهم الدخول في دينه ، فأبوا ، فخد أخدودا ، وأوقد فيه نارا ، ثم خيرهم بين الدخول في دينه ، وبين إلقائهم في النار ، فاختاروا إلقاءهم في النار ، على الرجوع عن دينهم ، فألقوا في النار ، فنجى الله المؤمنين الذين ألقوا في النار من الحريق ، بأن قبض أرواحهم قبل أن تمسهم النار ، وخرجت النار إلى من على شفير الأخدود من الكفار فأحرقتهم ، فذلك قول الله : ( فلهم عذاب جهنم ) في الآخرة ( ولهم عذاب الحريق ) في الدنيا .
واختلف في موضع جواب القسم بقوله : ( والسماء ذات البروج ) فقال بعضهم : جوابه : ( إن بطش ربك لشديد )
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : وقع القسم هاهنا ( إن بطش ربك لشديد ) . وقال بعض نحويي البصرة : موضع قسمها – والله أعلم – على ( قتل أصحاب الأخدود ) ، أضمر اللام كما قال : ( والشمس وضحاها قد أفلح من زكاها ) يريد : إن شاء الله لقد أفلح من زكاها ، فألقى اللام ، وإن شئت قلت على التقديم ، كأنه قال : قتل أصحاب الأخدود ، والسماء ذات البروج .
وقال بعض نحويي الكوفة : يقال في التفسير : إن جواب القسم في قوله : ( قتل ) كما كان قسم ( والشمس وضحاها ) في قوله : ( قد أفلح ) هذا في التفسير ، قالوا : ولم نجد العرب تدع القسم بغير لام يستقبل بها أو “لا” أو “إن” أو “ما” ، فإن يكن ذلك كذلك ، فكأنه مما ترك فيه الجواب ، ثم استؤنف موضع الجواب بالخبر ، كما قيل : ” يأيها الإنسان ” في كثير من الكلام .
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال : جواب القسم في ذلك متروك ، والخبر مستأنف; لأن علامة جواب القسم لا تحذفها العرب من الكلام إذا أجابته . [ ص: 342 ]
وأولى التأويلين بقوله : ( قتل أصحاب الأخدود ) : لعن أصحاب الأخدود الذين ألقوا المؤمنين والمؤمنات في الأخدود .
وإنما قلت : ذلك أولى التأويلين بالصواب; للذي ذكرنا عن الربيع من العلة ، وهو أن الله أخبر أن لهم عذاب الحريق مع عذاب جهنم ، ولو لم يكونوا أحرقوا في الدنيا ، لم يكن لقوله : ( ولهم عذاب الحريق ) معنى مفهوم ، مع إخباره أن لهم عذاب جهنم; لأن عذاب جهنم هو عذاب الحريق مع سائر أنواع عذابها في الآخرة ، والأخدود : الحفرة تحفر في الأرض .
وقوله : ( النار ذات الوقود ) فقوله ( النار ) : رد على الأخدود ، ولذلك خفضت ، وإنما جاز ردها عليه وهي غيره ، لأنها كانت فيه ، فكأنها إذ كانت فيه هو ، فجرى الكلام عليه لمعرفة المخاطبين به بمعناه ، وكأنه قيل : قتل أصحاب النار ذات الوقود ، ويعني بقوله : : ( ذات الوقود ) ذات الحطب الجزل ، وذلك إذا فتحت الواو ، فأما الوقود بضم الواو ، فهو الاتقاد .
القول في تأويل قوله تعالى : ( إذ هم عليها قعود ( 6 ) وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود ( 7 ) وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ( 8 ) ) .
يقول تعالى ذكره : النار ذات الوقود ؛ إذ هؤلاء الكفار من أصحاب الأخدود عليها ، يعني على النار ، فقال : عليها ، والمعنى : أنهم قعود على حافة الأخدود ، فقيل : على النار ، والمعنى : لشفير الأخدود ، لمعرفة السامعين معناه .
وكان قتادة يقول في ذلك ما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود ) يعني بذلك المؤمنين ، وهذا التأويل الذي تأوله قتادة على مذهب من قال : قتل أصحاب الأخدود من أهل الإيمان .
وقد دللنا على أن الصواب من تأويل ذلك غير هذا القول الذي وجه تأويله قتادة قبله .
وقوله : ( وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود ) يعني : حضور . [ ص: 343 ]
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود ) يعني بذلك الكفار .
وقوله : ( وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله ) يقول تعالى ذكره : وما وجد هؤلاء الكفار الذين فتنوا المؤمنين على المؤمنين والمؤمنات بالنار في شيء ، ولا فعلوا بهم ما فعلوا بسبب ، إلا من أجل أنهم آمنوا بالله ، وقال : ( إلا أن يؤمنوا بالله ) لأن المعنى إلا إيمانهم بالله ، فلذلك حسن في موضعه ( يؤمنوا ) ، إذ كان الإيمان لهم صفة ( العزيز ) . يقول : الشديد في انتقامه ممن انتقم منه ( الحميد ) يقول : المحمود بإحسانه إلى خلقه .
القول في تأويل قوله تعالى : ( الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد ( 9 ) إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق ( 10 ) ) .
يقول تعالى ذكره : الذي له سلطان السماوات السبع والأرضين وما فيهن ( والله على كل شيء شهيد ) يقول تعالى ذكره : والله على فعل هؤلاء الكفار من أصحاب الأخدود بالمؤمنين الذين فتنوهم شاهد ، وعلى غير ذلك من أفعالهم وأفعال جميع خلقه ، وهو مجازيهم جزاءهم .
وقوله : ( إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ) يقول : إن الذين ابتلوا المؤمنين والمؤمنات بالله بتعذيبهم ، وإحراقهم بالنار .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ( إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ) حرقوا المؤمنين والمؤمنات .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني [ ص: 344 ] الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( إن الذين فتنوا ) قال : عذبوا .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ) قال : حرقوهم بالنار .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( فتنوا المؤمنين والمؤمنات ) يقول : حرقوهم .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن ابن أبزى ( إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ) حرقوهم .
وقوله : ( ثم لم يتوبوا ) يقول : ثم لم يتوبوا من كفرهم وفعلهم الذي فعلوا بالمؤمنين والمؤمنات من أجل إيمانهم بالله ( فلهم عذاب جهنم ) في الآخرة ( ولهم عذاب الحريق ) في الدنيا .
كما حدثت عن عمار ، قال : ثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ( فلهم عذاب جهنم ) في الآخرة ( ولهم عذاب الحريق ) في الدنيا .
القول في تأويل قوله تعالى : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير ( 11 ) إن بطش ربك لشديد ( 12 ) ) .
يقول تعالى ذكره : إن الذين أقروا بتوحيد الله ، وهم هؤلاء القوم الذين حرقهم أصحاب الأخدود وغيرهم من سائر أهل التوحيد ( وعملوا الصالحات ) يقول : وعملوا بطاعة الله ، وأتمروا لأمره ، وانتهوا عما نهاهم عنه ( لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ) يقول : لهم في الآخرة عند الله بساتين تجري من تحتها الأنهار والخمر واللبن والعسل ( ذلك الفوز الكبير ) يقول : هذا الذي هو لهؤلاء المؤمنين في الآخرة ، هو الظفر الكبير بما طلبوا والتمسوا بإيمانهم بالله في الدنيا ، وعملهم بما أمرهم الله به فيها ورضيه منهم .
وقوله : ( إن بطش ربك لشديد ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : إن بطش ربك يا محمد لمن بطش به من خلقه ، وهو انتقامه ممن انتقم منه [ ص: 345 ] لشديد ، وهو تحذير من الله لقوم رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، أن يحل بهم من عذابه ونقمته ، نظير الذي حل بأصحاب الأخدود على كفرهم به ، وتكذيبهم رسوله ، وفتنتهم المؤمنين والمؤمنات منهم .
القول في تأويل قوله تعالى : ( إنه هو يبدئ ويعيد ( 13 ) وهو الغفور الودود ( 14 ) ذو العرش المجيد ( 15 ) فعال لما يريد ( 16 ) هل أتاك حديث الجنود ( 17 ) فرعون وثمود ( 18 ) ) .
اختلف أهل التأويل في معنى قوله : ( إنه هو يبدئ ويعيد ) فقال بعضهم : معنى ذلك : إن الله أبدى خلقه ، فهو يبتدئ ، بمعنى : يحدث خلقه ابتداء ، ثم يميتهم ، ثم يعيدهم أحياء بعد مماتهم ، كهيئتهم قبل مماتهم .
ذكر من قال ذلك :
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( يبدئ ويعيد ) يعني : الخلق .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( يبدئ ويعيد ) قال : يبدئ الخلق حين خلقه ، ويعيده يوم القيامة .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : إنه هو يبدئ العذاب ويعيده .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ( إنه هو يبدئ ويعيد ) قال : يبدئ العذاب ويعيده .
وأولى التأويلين في ذلك عندي بالصواب ، وأشبههما بظاهر ما دل عليه التنزيل القول الذي ذكرناه عن ابن عباس ، وهو أنه يبدئ العذاب لأهل الكفر به ويعيد ، كما قال جل ثناؤه : ( فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق ) في الدنيا ، فأبدأ ذلك لهم في الدنيا ، وهو يعيده لهم في الآخرة .
وإنما قلت : هذا أولى التأويلين بالصواب ; لأن الله أتبع ذلك قوله : ( إن بطش ربك لشديد ) فكان للبيان عن معنى شدة بطشه الذي قد ذكره قبله ، أشبه به بالبيان [ ص: 346 ] عما لم يجر له ذكر ، ومما يؤيد ما قلنا من ذلك وضوحا وصحة ، قوله : ( وهو الغفور الودود ) فبين ذلك عن أن الذي قبله من ذكر خبره عن عذابه وشدة عقابه .
وقوله : ( وهو الغفور الودود ) يقول تعالى ذكره : وهو ذو المغفرة لمن تاب إليه من ذنوبه ، وذو المحبة له .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : ( الغفور الودود ) يقول : الحبيب .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : ( الغفور الودود ) قال : الرحيم .
وقوله : ( ذو العرش المجيد ) يقول تعالى ذكره : ذو العرش الكريم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : ( ذو العرش المجيد ) يقول : الكريم .
واختلفت القراء في قراءة قوله : ( المجيد ) فقرأته عامة قراء المدينة ومكة والبصرة وبعض الكوفيين رفعا ، ردا على قوله : ( ذو العرش ) على أنه من صفة الله تعالى ذكره . وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة خفضا ، على أنه من صفة العرش .
والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان معروفتان ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب .
وقوله : ( فعال لما يريد ) يقول : هو غفار لذنوب من شاء من عباده إذا تاب وأناب منها ، معاقب من أصر عليها وأقام ، لا يمنعه مانع ، من فعل أراد أن يفعله ، ولا يحول بينه وبين ذلك حائل ؛ لأن له ملك السماوات والأرض ، وهو العزيز الحكيم .
وقوله : ( هل أتاك حديث الجنود ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : هل جاءك يا محمد حديث الجنود الذين تجندوا على الله ورسوله بأذاهم ومكروههم; يقول : قد أتاك ذلك وعلمته ، فاصبر لأذى قومك إياك لما نالوك به من [ ص: 347 ] مكروه كما صبر الذين تجند هؤلاء الجنود عليهم من رسلي ، ولا يثنيك عن تبليغهم رسالتي ، كما لم يثن الذين أرسلوا إلى هؤلاء ، فإن عاقبة من لم يصدقك ويؤمن بك منهم إلى عطب وهلاك ، كالذي كان من هؤلاء الجنود ، ثم بين جل ثناؤه عن الجنود من هم ، فقال : ( فرعون وثمود ) يقول : ( فرعون ) ، فاجتزى بذكره ، إذ كان رئيس جنده من ذكر جنده وأتباعه . وإنما معنى الكلام : هل أتاك حديث الجنود ، فرعون وقومه وثمود ، وخفض فرعون ردا على الجنود ، على الترجمة عنهم ، وإنما فتح ؛ لأنه لا يجرى وثمود .
القول في تأويل قوله تعالى : ( بل الذين كفروا في تكذيب ( 19 ) والله من ورائهم محيط ( 20 ) بل هو قرآن مجيد ( 21 ) في لوح محفوظ ( 22 ) ) .
يقول تعالى ذكره : ما بهؤلاء القوم الذين يكذبون بوعيد الله أنهم لم يأتهم أنباء من قبلهم من الأمم المكذبة رسل الله كفرعون وقومه ، وثمود وأشكالهم ، وما أحل الله بهم من النقم بتكذيبهم الرسل ، ولكنهم في تكذيبهم بوحي الله وتنزيله ، إيثارا منهم لأهوائهم ، واتباعا منهم لسنن آبائهم ( والله من ورائهم محيط ) بأعمالهم محص لها ، لا يخفى عليه منها شيء ، وهو مجازيهم على جميعها .
وقوله : ( بل هو قرآن مجيد ) يقول – تكذيبا منه جل ثناؤه للقائلين للقرآن هو شعر وسجع – : ما ذلك كذلك ، بل هو قرآن كريم .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( بل هو قرآن مجيد ) يقول : قرآن كريم .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن أشعث بن إسحاق ، عن جعفر ، عن سعيد ، في قوله : ( بل هو قرآن مجيد ) قال : كريم .
وقوله : ( في لوح محفوظ ) يقول تعالى ذكره : هو قرآن كريم مثبت في لوح محفوظ .
واختلفت القراء في قراءة قوله : ( محفوظ ) فقرأ ذلك من قرأه من أهل الحجاز أبو جعفر القارئ وابن كثير ، ومن قرأه من قراء الكوفة عاصم والأعمش وحمزة [ ص: 348 ] والكسائي ، ومن البصريين أبو عمرو ( محفوظ ) خفضا على معنى أن اللوح هو المنعوت بالحفظ . وإذا كان ذلك كذلك كان التأويل : في لوح محفوظ من الزيادة فيه والنقصان منه عما أثبته الله فيه . وقرأ ذلك من المكيين ابن محيصن ، ومن المدنيين نافع ( محفوظ ) رفعا ، ردا على القرآن ، على أنه من نعته وصفته . وكان معنى ذلك على قراءتهما : ( بل هو قرآن مجيد ) محفوظ من التغيير والتبديل في لوح .
والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان معروفتان في قراءة الأمصار ، صحيحتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب . وإذا كان ذلك كذلك ، فبأي القراءتين قرأ القارئ ، فتأويل القراءة التي يقرؤها على ما بينا .
وقد حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا يحيى ، قال : ثنا سفيان عن منصور ، عن مجاهد ( في لوح ) قال : في أم الكتاب .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( في لوح محفوظ ) عند الله .
وقال آخرون : إنما قيل : محفوظ لأنه في جبهة إسرافيل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا عمرو بن علي ، قال : سمعت قرة بن سليمان ، قال : ثنا حرب بن سريج ، قال : ثنا عبد العزيز بن صهيب ، عن أنس بن مالك ، في قوله : ( بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ ) قال : إن اللوح المحفوظ الذي ذكر الله ، ( بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ ) في جبهة إسرافيل .
آخر تفسير سورة البروج