تفسير الطبري سورة الليل

تفسير الطبري سورة الليل

سورة الليل كاملة بالتشكيل

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

وَٱلَّيۡلِ إِذَا يَغۡشَىٰ  وَٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ  وَمَا خَلَقَ ٱلذَّكَرَ وَٱلۡأُنثَىٰٓ  إِنَّ سَعۡيَكُمۡ لَشَتَّىٰ  فَأَمَّا مَنۡ أَعۡطَىٰ وَٱتَّقَىٰ  وَصَدَّقَ بِٱلۡحُسۡنَىٰ  فَسَنُيَسِّرُهُۥ لِلۡيُسۡرَىٰ  وَأَمَّا مَنۢ بَخِلَ وَٱسۡتَغۡنَىٰ  وَكَذَّبَ بِٱلۡحُسۡنَىٰ  فَسَنُيَسِّرُهُۥ لِلۡعُسۡرَىٰ  وَمَا يُغۡنِي عَنۡهُ مَالُهُۥٓ إِذَا تَرَدَّىٰٓ  إِنَّ عَلَيۡنَا لَلۡهُدَىٰ  وَإِنَّ لَنَا لَلۡأٓخِرَةَ وَٱلۡأُولَىٰ  فَأَنذَرۡتُكُمۡ نَارٗا تَلَظَّىٰ  لَا يَصۡلَىٰهَآ إِلَّا ٱلۡأَشۡقَى  ٱلَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ  وَسَيُجَنَّبُهَا ٱلۡأَتۡقَى  ٱلَّذِي يُؤۡتِي مَالَهُۥ يَتَزَكَّىٰ  وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُۥ مِن نِّعۡمَةٖ تُجۡزَىٰٓ  إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ وَجۡهِ رَبِّهِ ٱلۡأَعۡلَىٰ  وَلَسَوۡفَ يَرۡضَىٰ 

 

 

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى جل جلاله وتقدست أسماؤه : ( والليل إذا يغشى ( 1 ) والنهار إذا تجلى ( 2 ) وما خلق الذكر والأنثى ( 3 ) إن سعيكم لشتى ( 4 ) فأما من أعطى واتقى ( 5 ) وصدق بالحسنى ( 6 ) فسنيسره لليسرى ( 7 ) وأما من بخل واستغنى ( 8 ) وكذب بالحسنى ( 9 ) فسنيسره للعسرى ( 10 ) ) .

يقول تعالى ذكره مقسما بالليل إذا غشى النهار بظلمته ، فأذهب ضوءه ، وجاءت ظلمته : ( والليل إذا يغشى ) النهار ( والنهار إذا تجلى ) وهذا أيضا قسم ، أقسم بالنهار إذا هو أضاء فأنار ، وظهر للأبصار . ما كانت ظلمة الليل قد حالت بينها وبين رؤيته وإتيانه إياها عيانا ، وكان قتادة يذهب فيما أقسم الله به من الأشياء أنه إنما أقسم به لعظم شأنه عنده .

كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله ( والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى ) قال : آيتان عظيمتان يكورهما الله على الخلائق .

وقوله : ( وما خلق الذكر والأنثى ) يحتمل الوجهين اللذين وصفت في قوله : ( والسماء وما بناها ) وفي ( والأرض وما طحاها ) وهو أن يجعل ” ما ” بمعنى ” من ” فيكون ذلك قسما من الله جل ثناؤه بخالق الذكر والأنثى ، وهو ذلك الخالق ، وأن تجعل ” ما ” مع ما بعدها بمعنى المصدر ، ويكون قسما بخلقه الذكر والأنثى .

وقد ذكر عن عبد الله بن مسعود وأبي الدرداء : أنهما كانا يقرآن ذلك ( والذكر والأنثى ) ويأثره أبو الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . [ ص: 466 ]

ذكر الخبر بذلك :

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي إسحاق قال : في قراءة عبد الله ( والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى والذكر والأنثى ) .

حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا هشام بن عبد الملك قال : ثنا شعبة ، قال : أخبرني المغيرة ، قال : سمعت إبراهيم يقول : أتى علقمة الشام ، فقعد إلى أبي الدرداء ، فقال : ممن أنت ؟ فقلت : من أهل الكوفة ، فقال : كيف كان عبد الله يقرأ هذه الآية ( والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى ) فقلت : ( والذكر والأنثى ) قال : فما زال هؤلاء حتى كادوا يستضلونني ، وقد سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا حاتم بن وردان ، قال : ثنا أبو حمزة ، عن إبراهيم ، عن علقمة قال : أتينا الشام ، فدخلت على أبي الدرداء ، فسألني فقال : كيف سمعت ابن مسعود يقرأ هذه الآية : ( والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى ) قال : قلت : ( والذكر والأنثى ) قال : كفاك ، سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها .

حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ; وحدثني إسحاق بن شاهين الواسطي ، قال : ثنا خالد بن عبد الله عن داود ، عن عامر ، عن علقمة ، قال : قدمت الشام ، فلقيت أبا الدرداء ، فقال : من أين أنت ؟ فقلت من أهل العراق ؟ قال : من أيها ؟ قلت : من أهل الكوفة ، قال : هل تقرأه قراءة ابن أم عبد ؟ قلت : نعم ، قال : اقرأ ( والليل إذا يغشى ) قال : فقرأت : ( والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى والذكر والأنثى ) قال : فضحك ، ثم قال : هكذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم .

حدثنا ابن المثنى ، قال : ثني عبد الأعلى ، قال : ثني داود ، عن عامر ، عن علقمة ، عن أبي الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بنحوه .

حدثني أبو السائب ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، قال : قدمت الشام ، فأتى أبو الدرداء ، فقال : فيكم أحد يقرأ علي قراءة عبد الله ؟ قال : فأشاروا إلي ، قال : قلت : أنا ، قال : فكيف سمعت عبد الله يقرأ هذه الآية : ( والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى والذكر والأنثى ) قال : [ ص: 467 ] وأنا هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : فهؤلاء يريدوني على أن أقرأ ( وما خلق الذكر والأنثى ) فلا أنا أتابعهم .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( وما خلق الذكر والأنثى ) قال : في بعض الحروف ( والذكر والأنثى ) .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، مثله .

حدثني أحمد بن يوسف ، قال : ثنا القاسم ، قال : ثنا حجاج ، عن هارون ، عن إسماعيل ، عن الحسن أنه كان يقرأها ( وما خلق الذكر والأنثى ) يقول : والذي خلق الذكر والأنثى ; قال هارون : قال أبو عمرو : وأهل مكة يقولون للرعد : سبحان ما سبحت له .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن مغيرة ، عن مقسم الضبي ، عن إبراهيم بن يزيد بن أبي عمران ، عن علقمة بن قيس أبي شبل : أنه أتى الشام ، فدخل المسجد فصلى فيه ، ثم قام إلى حلقة فجلس فيها ; قال : فجاء رجل إلي ، فعرفت فيه تحوش القوم وهيبتهم له ، فجلس إلى جنبي ، فقلت : الحمد لله إني لأرجو أن يكون الله قد استجاب دعوتي ، فإذا ذلك الرجل أبو الدرداء ، قال : وما ذاك ؟ فقال علقمة : دعوت الله أن يرزقني جليسا صالحا ، فأرجو أن يكون أنت ، قال : من أين أنت ؟ قلت : من الكوفة ، أو من أهل العراق من الكوفة . قال أبو الدرداء : ألم يكن فيكم صاحب النعلين والوساد والمطهرة ، يعني ابن مسعود ، أو لم يكن فيكم من أجير على لسان النبي صلى الله عليه وسلم من الشيطان الرجيم ، يعني عمار بن ياسر ، أو لم يكن فيكم صاحب السر الذي لا يعلمه غيره ، أو أحد غيره ، يعني حذيفة بن اليمان ، ثم قال : أيكم يحفظ كما كان عبد الله يقرأ ؟ قال : فقلت : أنا ، قال : اقرأ : ( والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى ) قال علقمة : فقرأت : ( الذكر والأنثى ) ، فقال أبو الدرداء : والذي لا إله إلا هو ، كذا أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فوه إلى في ، فما زال هؤلاء حتى كادوا يردونني عنها .

وقوله : ( إن سعيكم لشتى ) يقول : إن عملكم لمختلف أيها الناس ؛ لأن منكم الكافر بربه ، والعاصي له في أمره ونهيه ، والمؤمن به ، والمطيع له في أمره ونهيه .

كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( إن سعيكم لشتى ) [ ص: 468 ] يقول : لمختلف .

وقوله : ( إن سعيكم لشتى ) جواب القسم ، والكلام : والليل إذا يغشى إن سعيكم لشتى ، وكذا قال أهل العلم .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : وقع القسم هاهنا ( إن سعيكم لشتى ) .

وقوله : ( فأما من أعطى واتقى ) يقول تعالى ذكره : فأما من أعطى واتقى منكم أيها الناس في سبيل الله ، ومن أمره الله بإعطائه من ماله ، وما وهب له من فضله ، واتقى الله واجتنب محارمه .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : ثنا بشر بن المفضل ، قال : ثنا داود ، عن عامر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في قوله : ( فأما من أعطى واتقى ) قال : أعطى ما عنده واتقى ، قال : اتقى ربه .

حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : ثنا خالد بن عبد الله ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ( فأما من أعطى ) من الفضل ( واتقى ) : اتقى ربه .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( فأما من أعطى ) حق الله ( واتقى ) محارم الله التي نهى عنها .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : 30 ( فأما من أعطى واتقى ) يقول : من ذكر الله ، واتقى الله .

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله تعالى : ( وصدق بالحسنى ) فقال بعضهم : معنى ذلك : وصدق بالخلف من الله على إعطائه ما أعطى من ماله فيما أعطى فيه مما أمره الله بإعطائه فيه .

ذكر من قال ذلك :

حدثني حميد بن مسعدة ، قال : ثنا بشر بن المفضل ، قال : ثنا دواد ، عن عكرمة ، [ ص: 469 ] عن ابن عباس ، في قوله : ( وصدق بالحسنى ) قال : وصدق بالخلف من الله .

حدثني محمد بن المثنى ، قال : ثني عبد الأعلى ، قال : ثنا داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : ( وصدق بالحسنى ) يقول : وصدق بالخلف من الله .

حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : ثنا خالد بن عبد الله ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ( وصدق بالحسنى ) بالخلف .

حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، مثله .

حدثنا إسماعيل بن موسى السدي ، قال : أخبرنا بشر بن الحكم الأحمسي ، عن سعيد بن الصلت ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ( وصدق بالحسنى ) قال : أيقن بالخلف .

حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن عكرمة ( فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى ) قال : بالخلف .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن عكرمة ( وصدق بالحسنى ) قال : بأن الله سيخلف له .

قال ثنا مهران ، عن سفيان ، عن أبي هاشم المكي ، عن مجاهد ( وصدق بالحسنى ) قال بالخلف .

حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا وكيع ، عن أبي بكر الهذلي ، عن شهر بن حوشب ، عن ابن عباس : ( وصدق بالحسنى ) قال : بالخلف .

حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا وكيع ، عن نضر بن عربي ، عن عكرمة ، قال : بالخلف .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : وصدق بأن الله واحد لا شريك له .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمر بن علي المقدمي ، قال : ثنا أشعث السجستاني ، قال : ثنا مسعر ; وحدثنا أبو كريب قال : ثنا وكيع ، عن مسعر ، عن أبي حصين ، عن أبي عبد الرحمن ( وصدق بالحسنى ) قال : بلا إله إلا الله .

حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي حصين ، عن أبي عبد الرحمن مثله . [ ص: 470 ]

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن أبي حصين ، عن أبي عبد الرحمن ، مثله .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( وصدق بالحسنى ) : بلا إله إلا الله .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ( وصدق بالحسنى ) : يقول : صدق بلا إله إلا الله .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : وصدق بالجنة .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( وصدق بالحسنى ) قال : بالجنة .

حدثنا ابن بشار ، قال : ثني محمد بن محبب ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا وكيع ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

وقال آخرون : بل معناه : وصدق بموعود الله .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( وصدق بالحسنى ) قال : بموعود الله على نفسه ، فعمل بذلك الموعود الذي وعده الله .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله ( وصدق بالحسنى ) قال : صدق المؤمن بموعود الله الحسن .

وأشبه هذه الأقوال بما دل عليه ظاهر التنزيل ، وأولاها بالصواب عندي : قول من قال : عني به التصديق بالخلف من الله على نفقته .

وإنما قلت : ذلك أولى الأقوال بالصواب في ذلك ؛ لأن الله ذكر قبله منفقا أنفق طالبا بنفقته الخلف منها ، فكان أولى المعاني به أن يكون الذي عقيبه الخبر عن تصديقه بوعد الله إياه بالخلف ؛ إذ كانت نفقته على الوجه الذي يرضاه ، مع أن الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو الذي قلنا في ذلك ورد . [ ص: 471 ]

ذكر الخبر الوارد بذلك :

حدثني الحسن بن سلمة بن أبي كبشة ، قال : ثنا عبد الملك بن عمرو ، قال : ثنا عباد بن راشد ، عن قتادة قال : ثني خليد العصري ، عن أبي الدرداء ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” ما من يوم غربت فيه شمسه إلا وبجنبها ملكان يناديان ، يسمعه خلق الله كلهم إلا الثقلين : اللهم أعط منفقا خلفا ، وأعط ممسكا تلفا ” فأنزل الله في ذلك القرآن ( فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى ) . . . إلى قوله ( للعسرى ) .

وذكر أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه .

ذكر الخبر بذلك :

حدثني هارون بن إدريس الأصم ، قال : ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، قال : ثنا محمد بن إسحاق ، عن محمد بن عبيد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ، عن عامر بن عبد الله بن الزبير ، قال : كان أبو بكر الصديق يعتق على الإسلام بمكة ، فكان يعتق عجائز ونساء إذا أسلمن ، فقال له أبوه : أي بني ، أراك تعتق أناسا ضعفاء ، فلو أنك أعتقت رجالا جلدا يقومون معك ، ويمنعونك ، ويدفعون عنك ، فقال : أي أبت ، إنما أريد ” أظنه قال ” : ما عند الله ، قال : فحدثني بعض أهل بيتي ، أن هذه الآية أنزلت فيه : ( فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى ) .

وقوله : ( فسنيسره لليسرى ) يقول : فسنهيئه للخلة اليسرى ، وهي العمل بما يرضاه الله منه في الدنيا ؛ ليوجب له به في الآخرة الجنة .

وقوله : ( وأما من بخل واستغنى ) يقول تعالى ذكره : وأما من بخل بالنفقة في سبيل الله ، ومنع ما وهب الله له من فضله ، من صرفه في الوجوه التي أمر الله بصرفه فيها ، واستغنى عن ربه ، فلم يرغب إليه بالعمل له بطاعته بالزيادة فيما خوله من ذلك .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : ثنا بشر بن المفضل ، قال : ثنا داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في قوله : ( وأما من بخل واستغنى ) قال : بخل بما عنده ، واستغنى في نفسه . [ ص: 472 ]

حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا خالد بن عبد الله ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة عن ابن عباس ( وأما من بخل واستغنى ) وأما من بخل بالفضل ، واستغنى عن ربه .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ( وأما من بخل واستغنى ) يقول : من أغناه الله ، فبخل بالزكاة .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله ( وأما من بخل واستغنى ) : وأما من بخل بحق الله عليه ، واستغنى في نفسه عن ربه .

وأما قوله : ( وكذب بالحسنى ) فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله نحو اختلافهم في قوله : ( وصدق بالحسنى ) وأما نحن فنقول : معناه : وكذب بالخلف .

كما حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : ثنا بشر بن المفضل ، قال : ثنا داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : ( وكذب بالحسنى ) : وكذب بالخلف .

حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا خالد بن عبد الله ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ( وكذب بالحسنى ) بالخلف من الله .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( وكذب بالحسنى ) وكذب بموعود الله الذي وعد ، قال الله : ( فسنيسره للعسرى ) .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( وكذب بالحسنى ) وكذب الكافر بموعود الله الحسن .

وقال آخرون : معناه : وكذب بتوحيد الله .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ( وكذب بالحسنى ) : وكذب بلا إله إلا الله .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( وكذب بالحسنى ) بلا إله إلا الله .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : وكذب بالجنة .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد [ ص: 473 ] ( وكذب بالحسنى ) قال : بالجنة .

وقوله : ( فسنيسره للعسرى ) يقول تعالى ذكره : فسنهيئه في الدنيا للخلة العسرى ، وهو من قولهم : قد يسرت غنم فلان : إذا ولدت وتهيأت للولادة ، وكما قال الشاعر :

هما سيدانا يزعمان وإنما يسوداننا أن يسرت غنماهما

وقيل : ( فسنيسره للعسرى ) ولا تيسر في العسرى للذي تقدم في أول الكلام من قوله : ( فسنيسره لليسرى ) واذا جمع بين كلامين ؛ أحدهما : ذكر الخير ، والآخر : ذكر الشر ، جاز ذلك بالتيسير فيهما جميعا ; والعسرى التي أخبر الله جل ثناؤه أنه ييسره لها : العمل بما يكرهه ولا يرضاه .

وبنحو الذي قلنا في ذلك جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ذكر الخبر بذلك :

حدثني واصل بن عبد الأعلى وأبو كريب ، قالا : ثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن سعد بن عبيدة ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، عن علي ، قال : كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فنكت الأرض ، ثم رفع رأسه فقال : ” ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار ” قلنا : يا رسول الله أفلا نتكل ؟ قال : ” لا ، اعملوا فكل ميسر ” ثم قرأ : ( فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى .

حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا زائدة بن قدامة ، عن منصور ، عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي ، عن علي ، قال : كنا في جنازة في البقيع ، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس وجلسنا معه ، ومعه عود ينكت في الأرض ، فرفع رأسه إلى السماء فقال : ” ما منكم من نفس منفوسة إلا قد كتب مدخلها ” فقال القوم : يا رسول الله ألا نتكل على كتابنا ، فمن كان من أهل السعادة فإنه يعمل للسعادة ، ومن كان من أهل الشقاء فإنه يعمل للشقاء ، فقال : ” بل اعملوا فكل ميسر ; فأما من كان من أهل السعادة فإنه ييسر لعمل السعادة ، وأما من كان من أهل الشقاء فإنه ييسر للشقاء ” ثم قرأ ( فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى .

ص: 474 ] حدثنا أبو السائب ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن سعد بن عبيدة ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، عن علي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه .

حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن منصور والأعمش : أنهما سمعا سعد بن عبيدة ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، عن علي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان في جنازة ، فأخذ عودا ، فجعل ينكت في الأرض ، فقال : ” ما من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار أو من الجنة ” فقالوا : يا رسول الله أفلا نتكل ؟ قال : ” اعملوا فكل ميسر ( فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى ” .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن منصور والأعمش ، عن سعد بن عبيدة ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، عن علي رضي الله عنه قال : كنا جلوسا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فتناول شيئا من الأرض بيده ، فقال : ” ما منكم من أحد إلا وقد علم مقعده من الجنة والنار ” قالوا : يا نبي الله ، أفلا نتكل ؟ قال : ” لا اعملوا فكل ميسر لما خلق له ” ثم قرأ : ( فأما من أعطى واتقى . . . الآيتين .

قال : ثنا مهران ، عن أبي سنان ، عن عبد الملك بن سمرة بن أبي زائدة ، عن النزال بن سبرة ، قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ” ما منكم من نفس منفوسة إلا قد كتب الله عليها ما هي لاقيته ” وأعرابي عند النبي صلى الله عليه وسلم مرتاد ، فقال الأعرابي : فما جاء بي أضرب من وادي كذا وكذا ، إن كان قد فرغ من الأمر .

فنكت النبي صلى الله عليه وسلم في الأرض ، حتى ظن القوم أنه ود أنه لم يكن تكلم بشيء منه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ” كل ميسر لما خلق له ، فمن يرد الله به خيرا يسره لسبيل الخير ، ومن يرد به شرا يسره لسبيل الشر ” فلقيت عمرو بن مرة ، فعرضت عليه هذا الحديث ، فقال : قال النبي صلى الله عليه وسلم ، وزاد فيه : ( فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى ) .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هشيم ، قال : ثنا حصين ، عن سعد بن عبيدة ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، قال : لما نزلت هذه الآية : ( إنا كل شيء خلقناه بقدر ) [ ص: 475 ] قال رجل : يا رسول الله ، ففيم العمل ؟ أفي شيء نستأنفه ، أو في شيء قد فرغ منه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” اعملوا فكل ميسر : سنيسره لليسرى ، وسنيسره للعسرى ” .

حدثني عمرو بن عبد الملك الطائي ، قال : ثنا محمد بن عبيدة ، قال : ثنا الجراح ، عن إبراهيم بن عبد الحميد ، عن الحجاج بن أرطاة ، عن أبي إسحاق الهمداني ، عن سليمان الأعمش ، رفع الحديث إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم جالسا وبيده عود ينكت به في الأرض ، فرفع رأسه فقال : ” ما منكم من أحد إلا وقد علم مقعده من الجنة أو النار ” قلنا : يا رسول الله أفلا نتوكل ؟ قال لهم : ” اعملوا فكل ميسر لما خلق له ” ثم قال : ” أما سمعتم الله في كتابه يقول : ( فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى ) ” .

حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : ثنا خالد بن عبد الله ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ( فسنيسره للعسرى ) : للشر من الله .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحارث ، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله أنه قال : يا رسول الله ، أنعمل لأمر قد فرغ منه ، أو لأمر نأتنفه ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : ” كل عامل ميسر لعمله ” .

حدثني يونس ، قال : ثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن طلق بن حبيب ، عن بشير بن كعب ، قال : سأل غلامان شابان النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالا : يا رسول الله ، أنعمل فيما جفت به الأقلام ، وجرت به المقادير ، أو في شيء يستأنف ؟ فقال : ” بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير ” قالا : ففيم العمل إذن ؟ قال : ” اعملوا ، فكل عامل ميسر لعمله الذي خلق له ” قالا : فالآن نجد ونعمل .

 

 

القول في تأويل قوله تعالى : ( وما يغني عنه ماله إذا تردى ( 11 ) إن علينا للهدى ( 12 ) وإن لنا للآخرة والأولى ( 13 ) فأنذرتكم نارا تلظى ( 14 ) لا يصلاها إلا الأشقى ( 15 ) الذي كذب وتولى ( 16 ) وسيجنبها الأتقى ( 17 ) [ ص: 476 ] الذي يؤتي ماله يتزكى ( 18 ) ) .

يعني جل ثناؤه بقوله : ( وما يغني عنه ماله ) : أي شيء يدفع عن هذا الذي بخل بماله ، واستغنى عن ربه ، ماله يوم القيامة ( إذا ) هو ( تردى ) .

ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( إذا تردى ) فقال بعضهم : تأويله : إذا تردى في جهنم ؛ أي : سقط فيها فهوى .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا الأشجعي ، عن ابن أبي خالد ، عن أبي صالح ( وما يغني عنه ماله إذا تردى ) قال : في جهنم . قال أبو كريب : قد سمع الأشجعي من إسماعيل ذلك .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قوله : ( إذا تردى ) قال : إذا تردى في النار .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : إذا مات .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ( وما يغني عنه ماله إذا تردى ) قال : إذا مات .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( إذا تردى ) قال : إذا مات

حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا الأشجعي ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : إذا مات .

وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : معناه : إذا تردى في جهنم ؛ لأن ذلك هو المعروف من التردي ، فأما إذا أريد معنى الموت ، فإنه يقال : ردي فلان ، وقلما يقال : تردى .

وقوله : ( إن علينا للهدى ) يقول تعالى ذكره : إن علينا لبيان الحق من الباطل ، والطاعة من المعصية .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . [ ص: 477 ]

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( إن علينا للهدى ) يقول : على الله البيان ، بيان حلاله وحرامه ، وطاعته ومعصيته .

وكان بعض أهل العربية يتأوله بمعنى : أنه من سلك الهدى فعلى الله سبيله ، ويقول وهو مثل قوله : ( وعلى الله قصد السبيل ) ويقول : معنى ذلك : من أراد الله فهو على السبيل القاصد ، وقال : يقال معناه : إن علينا للهدى والإضلال ، كما قال : ( سرابيل تقيكم الحر ) وهي تقي الحر والبرد .

وقوله : ( وإن لنا للآخرة والأولى ) يقول : وإن لنا ملك ما في الدنيا والآخرة ، نعطي منهما من أردنا من خلقنا ، ونحرمه من شئنا .

وإنما عني بذلك جل ثناؤه أنه يوفق لطاعته من أحب من خلقه ، فيكرمه بها في الدنيا ، ويهيئ له الكرامة والثواب في الآخرة ، ويخذل من يشاء خذلانه من خلقه عن طاعته ، فيهينه بمعصيته في الدنيا ، ويخزيه بعقوبته عليها في الآخرة .

ثم قال جل ثناؤه : ( فأنذرتكم نارا تلظى ) يقول تعالى ذكره : فأنذرتكم أيها الناس نارا تتوهج ، وهي نار جهنم ، يقول : احذروا أن تعصوا ربكم في الدنيا ، وتكفروا به ، فتصلونها في الآخرة . وقيل : تلظى ، وإنما هي تتلظى ، وهي في موضع رفع ، لأنه فعل مستقبل ، ولو كان فعلا ماضيا لقيل : فأنذرتكم نارا تلظت .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : ( نارا تلظى ) قال : توهج .

وقوله : ( لا يصلاها إلا الأشقى ) يقول جل ثناؤه : لا يدخلها فيصلى بسعيرها إلا الأشقى ، ( الذي كذب وتولى ) يقول : الذي كذب بآيات ربه ، وأعرض عنها ، ولم يصدق بها .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . [ ص: 478 ]

ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا وكيع ، قال : ثنا هشام بن الغاز ، عن مكحول ، عن أبي هريرة ، قال : لتدخلن الجنة إلا من يأبى ، قالوا : يا أبا هريرة : ومن يأبى أن يدخل الجنة ؟ قال : فقرأ : ( الذي كذب وتولى ) .

حدثني الحسن بن ناصح ، قال : ثنا الحسن بن حبيب ومعاذ بن معاذ ، قالا : ثنا الأشعث ، عن الحسن في قوله : ( لا يصلاها إلا الأشقى ) قال معاذ : الذي كذب وتولى ، ولم يقله الحسن ، قال : المشرك .

وكان بعض أهل العربية يقول : لم يكن كذب برد ظاهر ، ولكن قصر عما أمر به من الطاعة ، فجعل تكذيبا ، كما تقول : لقي فلان العدو ، فكذب إذا نكل ورجع ، وذكر أنه سمع بعض العرب يقول : ليس لحدهم مكذوبة ، بمعنى : أنهم إذا لقوا صدقوا القتال ، ولم يرجعوا ; قال : وكذلك قول الله : ( ليس لوقعتها كاذبة ) .

وقوله : ( وسيجنبها الأتقى ) يقول : وسيوقى صلي النار التي تلظى التقي ، ووضع أفعل موضع فعيل ، كما قال طرفة :

تمنى رجال أن أموت وإن أمت فتلك سبيل لست فيها بأوحد

وقوله : ( الذي يؤتي ماله يتزكى ) يقول : الذي يعطي ماله في الدنيا في حقوق الله التي ألزمه إياها ، ( يتزكى ) : يعني : يتطهر بإعطائه ذلك من ذنوبه .

 

 

 

القول في تأويل قوله تعالى : ( وما لأحد عنده من نعمة تجزى ( 19 ) إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ( 20 ) ولسوف يرضى ( 21 ) ) .

كان بعض أهل العربية يوجه تأويل ذلك إلى : وما لأحد من خلق الله عند هذا الذي يؤتي ماله في سبيل الله يتزكى ( من نعمة تجزى ) يعني : من يد يكافئه [ ص: 479 ] عليها ، يقول : ليس ينفق ما ينفق من ذلك ، ويعطي ما يعطي مجازاة إنسان يجازيه على يد له عنده ، ولا مكافأة له على نعمة سلفت منه إليه ، أنعمها عليه ، ولكن يؤتيه في حقوق الله ابتغاء وجه الله . قال : وإلا في هذا الموضع بمعنى لكن ، وقال : يجوز أن يكون يفعل في المكافأة مستقبلا فيكون معناه : ولم يرد بما أنفق مكافأة من أحد ، ويكون موقع اللام التي في أحد في الهاء التي خفضتها عنده ، فكأنك قلت : وما له عند أحد فيما أنفق من نعمة يلتمس ثوابها ، قال : وقد تضع العرب الحرف في غير موضعه إذا كان معروفا ، واستشهدوا لذلك ببيت النابغة :

وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي على وعل في ذي المطارة عاقل

والمعنى : حتى ما تزيد مخافة وعل على مخافتي ، وهذا الذي قاله الذي حكينا قوله من أهل العربية ، وزعم أنه مما يجوز هو الصحيح الذي جاءت به الآثار عن أهل التأويل وقالوا : نزلت في أبي بكر بعتقه من أعتق .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى ) يقول : ليس به مثابة الناس ولا مجازاتهم ، إنما عطيته لله .

حدثني محمد بن إبراهيم الأنماطي ، قال : ثنا هارون بن معروف . قال : ثنا بشر بن السري ، قال : ثنا مصعب بن ثابت ، عن عامر بن عبد الله عن أبيه ، قال : نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق : ( وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى ) .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، قال : أخبرني سعيد ، عن قتادة ، في قوله ( وما لأحد عنده من نعمة تجزى ) قال : نزلت في أبي بكر ، [ ص: 480 ] أعتق ناسا لم يلتمس منهم جزاء ولا شكورا ، ستة أو سبعة ، منهم بلال ، وعامر بن فهيرة . وعلى هذا التأويل الذي ذكرناه عن هؤلاء ، ينبغي أن يكون قوله : ( إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ) نصبا على الاستثناء من معنى قوله : ( وما لأحد عنده من نعمة تجزى ) لأن معنى الكلام : وما يؤتي الذي يؤتي من ماله ملتمسا من أحد ثوابه ، إلا ابتغاء وجه ربه . وجائز أن يكون نصبه على مخالفة ما بعد إلا ما قبلها ، كما قال النابغة :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وما بالربع من أحد     إلا أواري لأيا ما أبينها

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقوله : ( ولسوف يرضى ) يقول : ولسوف يرضى هذا المؤتي ماله في حقوق الله عز وجل ، يتزكى بما يثيبه الله في الآخرة عوضا مما أتى في الدنيا في سبيله ، إذا لقي ربه تبارك وتعالى .

آخر تفسير سورة والليل إذا يغشى

 

اترك تعليقاً