قصة أيوب عليه السلام

 

قصة أيُّوب عليه السلام

 

 

أيُّوب عليه السلام نبي من أنبياء الله، ينتسب إلى إبراهيم عليه السلام، نبي كان مجال دعوته في منطقة البثنية بين دمشق وأذرعات، أو ما يعرف الآن بمنطقة حوران، ومن نسبه يتبين أنه كان في الفترة بين يوسف وموسى، وقيل: عاصَر يعقوب، كان دينه التوحيد والإصلاح بين الناس، وإذا أراد حاجة سجد لله ثم طلبها.

 

 

كان أيُّوب ذا مال من الأغنام والأراضي الزراعية والخدم والعبيد الذين يعملون فيها، ومع هذا الثراء فقد كان يتفانى في عبادة الله تعالى: ﴿ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ﴾ [النساء: 163]، وعليه فإن أيوب نبي من أنبياء الله موحًى إليه، ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الأنعام: 84]، مِن هاتين الآيتين نجد أن أيوب قد ذكر في جملة الأنبياء بلا تفصيل لدعوته وقومه الذين عاش معهم، غير أن هناك آيات ذكرت أيوب في معرض الصبر على البلاء؛ فقد أخذت جانبًا مهمًّا من حياته الشخصية مثلًا على صبر الأنبياء، ولعل هذا هو الأبرز في حياته؛ قال الله تعالى: ﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 83]، وهذا بعد ثلاثَ عشرة سنة من الصبر على البلاء، فخرجت الشكوى من أيوب، وهي أنه مريض أو مكلوم، أُوذي ضررًا بما لا يستطيع تحمله بشر، فما كان له إلا الالتجاء إلى ربه بآهةِ محزون وتضرع مستجير ورجاء كَلٍّ، وهذه الأنَّات لا تخرج عادة من النبي صلى الله عليه وسلم إلا بعد مزيد صبر وقوة تحمل، فإذا ما بلغ الأمر حدًّا لا يطاق من التحمل والصبر وبلغ “الحزام الطبيين”، فإن النفس لا تفتأ تجيش بما في داخلها، وتلجأ بقوة إلى بارئها، فلا تجد في الكون إلا هو، وسِع كرسيه السموات والأرض، فتفيض تعبيرًا بالدموع والأنَّات؛ شعورًا منها بالضعف والذل إلى الخالق لنيل الرحمة، فإذا أعلن الإنسان عن ضعفه أمام خالقه، وأوكل أمره إليه حيث لا ينفعه شيء سواه، فلا الأصدقاء ولا المقربون ولا الدواء له نفع.

 

فكل شيء من هؤلاء قد أعلن عن ضعفه وامتنع عن إحداث الأثر الشافي في جسم ذلك العليل المتهاوي ضعفًا، الذي يئن ألمًا وتوجعًا، وليس من سكن له إلا الله البارئ الشافي، فقد انقطع رجاؤه من كل مخلوق إلا إلى الله رب العالمين، لقد عملت زوجته الشريفة التي هي من معدن الطيبة والنبوة خادمة في البيوت كي تطعمه، ولما خشي أولئك الذين تعمل عندهم من نقل العدوى إليهم بسبب احتكاكها بأيوب منعوها من العمل، فلم تجد معها ما تشتري به الطعام لأيوب، فباعت إحدى ضفائرها وأحضرت له طعامًا طيبًا، فحلف ألا يأكل منه حتى تخبره من أين حصلت على الطعام، فكشفت عن رأسها وأشارت إلى مكان ضفيرتها فاشتد حزنه، وقال: ﴿ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ ﴾ [الأنبياء: 83، 84]، رب العالمين الذي وهب الحياة للخلق جميعًا محسنهم ومسيئهم، فهل يتخلى عن أنبيائه وعباده الصالحين القانتين اللائذين العائذين به؟ حاشا وكلا: ﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [يونس: 62].

 

لقد استجاب الله لدعاء أيوب وكشف عنه الضر وعوَّضه عن الصبر بأن أعاد له عزَّه وغناه وأهله: ﴿ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 84]، لقد برهَن أيوب على صبره ونجح في الامتحان، ففاز وعلت مكانته عند ربه، وارتفعت درجتُه، فكان في فترة البلاء مثالَ العابد الطائع الذي اتهم نفسه بالتقصير تجاه ربه، فزاد من العبادة والتسبيح والتقرب إلى الله، وفي سورة “ص – 41” – تبين الآية أن ما شكاه أيوب كان من كيد الشيطان له بالتعب والإرهاق، ﴿ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ﴾ [ص: 41]، وهذا ما جعل بعض المفسرين يقولون: إن إبليس – لعنه الله – استرق السمع لملائكة السماء فسمعهم يثنون على أيوب ويمتدحون عبادته وكثرة تسبيحه وذكره لله، فحسده اللعين على هذه المكانة والمنزلة التي وصل إليها، فطلب من ربه أن يسلطه عليه ليفتنه، فكان له ما أراد؛ فالله الخبير العليم بعبده أيوب كان يعلم أن أيوب سينجح في الامتحان، وأن إبليس سيبوء بالفشل؛ ليريَه نموذجًا من المؤمنين الذين يثبتون على الإيمان؛ لقوة اليقين عندهم، فلا تَثنيهم العقبات ولا تقلُّبات ظروف الدهر، فهم في طريق الإيمان ماضون.

 

وهكذا بدأ إبليس يتفنن في إيذاء أيوب، فسلطه الله على ماله فأفناه، فما كان من أيوب إلا الصبر والإقبال على العبادة، ثم تسلط على ولده، فبادوا، فصبر أيوب، ثم تسلط على جسد أيوب ونفخ في منخره فأوذي وأنتن جسمه حتى أخرجه قومُه من بلدهم؛ خشية العدوى، ولم يصبر معه سوى زوجته، فقامت على خدمته، وكان قد آمن معه ثلاثة نفر، فلما رأوه على هذه الحال بدأ الشك يأخذ مأخذه عندهم، وقال بعض الناس: لو كان لرب هذا فيه حاجة ما صنع به ما صنع، وأيوب صابر شاكر، لكنه خشي أن يكون فتنة يظن الناس في دِينه السوء وفي غيره من الشرك الخير، وهنا لجأ إلى الله بالدعاء؛ خشية فتنة الناس أن يقيسوا حاله بالمقياس الدنيوي الخاطئ؛ فاستجاب الله دعاءه: ﴿ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ﴾ [ص: 42]؛ أي: اضرب الأرض برجلك فيتفجر ينبوع حار، فاغتسل بمائه، فتشفى به القروح ففعل، ويتفجر آخر باردًا فاشرب فتشفى به الباطنة، ففعل ذلك فشفي مما كان فيه من علل بإذن الله، ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 43]؛ فقد أعاد الله أولاده على أحسن صورة، ثم وعده المزيد منهم، فكان له ذلك، وقد أخرج البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بينما أيوب يغتسل عريانًا خرَّ عليه رِجْل جراد – رف جراد – من ذهب، فجعل يحثي – يلتقط – في ثوبه، فناداه ربه: يا أيوب، ألم أكن أغنيتُك عما ترى؟ قال: بلى يا رب، ولكن لا غنى لي عن بركتك))، ورُوي أنه كان له أندران – مخزنان – أحدهما للقمح وآخر للشعير، فبعث الله سحابة فأفرغت في أندر القمح ذهبًا حتى فاض، وفي أندر الشعير فضة حتى فاض، وأنه أعاد زوجته إلى شبابها فولدت له ستًّا وعشرين ولدًا ذكرًا، ولكن ما قصة زوجته الوفية التي لازمته وهو في أشد حالات المرض؟ ﴿ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص: 44]، قيل عن زوجته: إنها جاءته بزيادة عما كانت تجلبه له من الخبز، فشك أن تكون باعت للحاجة عِرضها، وقيل: أقنعها الشيطان أن يذبح أيوب سخلة – أنثى الماعز وهي صغيرة – تقربًا إليه ليشفى، وهذا فعل الجهلاء الذين يستبطئون المرض فيحاولون فعل أي شيء، ولو فيه مخالفة شرعية طلبًا للشفاء، ونسوا بأن الشافي هو الله، وقيل: باعت ذؤابتيها – ضفائر شعرها – برغيفين مضطرة لكي تأتيه بالطعام، وكان أيوب يتعلق بهما إذا أراد القيام، وقيل: أتاها إبليس في هيئة طبيب فقال: أنا أشفيه إذا اعترف بأني أنا الذي شفيته ولا أريد أجرًا غير هذا، لأجل واحدة من هذه الأمور أو أكثر حلف إن شفاه الله أن يضربها مائة جلدة، ولكن الله علم إخلاصها، وأنها لا تستحق هذه المعاملة، فجعله يبَرُّ بيمينه بأن حمل حزمة فيها مائة من الأعواد والحشائش ويضربها بها، وقد امتدح الله أيوب بأنه أوَّاب رجَّاع إلى الله تعالى.

 

توفي أيوب بعد عمر مديد بلغ ثلاثًا وتسعين سنة، وكان معاصرًا لنبي الله يعقوب، وقيل: كان بعد شعيب، وقيل: بعد سليمان.

 

 

 

 

 

قصة نبي الله أيوب عليه السلام

 

 

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:

فلقد قص الله علينا في كتابه العزيز قصص الأنبياء والمرسلين، لنأخذ منها الدروس والعبر، ولتثبيت فؤاد النبي – صلى الله عليه وسلم -، وتقوية إيمان المؤمنين، وهدى ورحمة لقوم يؤمنون، قال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [يوسف: 111]، وقال تعالى: ﴿ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [هود: 120].

 

ومن هؤلاء الرسل نبي الله أيوب – عليه السلام -، قال تعالى: ﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 83، 84].

 

وقال تعالى: ﴿ واذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ * وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص: 41- 44].

 

قال علماء التفسير والتاريخ وغيرهم:

إن أيوب – عليه السلام – كان رجلًا كثير المال بأنواعه المتعددة، من الأراضي الواسعة، والأنعام والمواشي، وكان ذلك بأرض البَثْنِيَّة بأرض حوران بالشام، قال ابن عساكر: كانت كلها له، فابتلاه الله بفقد ذلك كله، وابتلي بأنواع البلايا في جسده، حيث لم يبق موضع في جسده لم يسلم من الأذى سوى قلبه ولسانه، وكان يذكر الله بهما، ويسبح ليلًا ونهارًا، وصباحًا ومساءً، حتى عافه الجليس، واستوحش منه الأنيس، وعافه القريب والبعيد، ورمي في مزبلة خارج بلده، ولم يبق عنده سوى زوجته، كانت تحفظ حقه، وقديم إحسانه، وشفقته عليها، وكانت تعمل بالأجر عند الناس، وتأتيه بالطعام، مع صبرها على فراق المال والولد، ومرض الزوج بعد النعمة، والحرمة التي كانت فيها، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وكما تقدم كانت تخدم الناس بالأجر، وتطعم أيوب – عليه السلام -، ثم إن الناس لم يكونوا يستخدمونها، لعلمهم أنها امرأة أيوب، خوفًا من أن ينالهم من بلائه، أو تعديهم بمخالطته، فلما لم تجد أحدًا يستخدمها عمدت فباعت لبعض بنات الأشراف إحدى ضفيرتيها بطعام كثير، فأتت به أيوب، فقال: من أين لك هذا؟ وأنكره، فقالت: خدمت به أناسًا، فلما كان من الغد لم تجد أحدًا فباعت الضفيرة الأخرى بطعام، فأتته به فأنكره، وحلف لا يأكله حتى تخبره من أين لها هذا الطعام، فكشفت عن رأسها خمارها، فلما رأى رأسها محلوقًا قال في دعائه: ﴿ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 83] فجاء الفرج من الله: ﴿ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ﴾ [ص: 42] أي اضرب الأرض برجلك، فامتثل ما أمر به، فأنبع الله عينًا باردة الماء، وأمره أن يغتسل فيها، ويشرب من مائها، فأذهب الله عنه ما كان يجده من الألم والأذى والسقم الذي كان في جسده ظاهرًا وباطنًا، وأبدله الله بعد ذلك صحة ظاهرة وباطنة، وجمالًا تامًا، ومالًا كثيرًا، حتى صب له من المال مطرًا عظيمًا، جراد من ذهب، روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة قال: “بينما أيوب يغتسل عريانًا خر عليه جراد من ذهب، فجعل أيوب يحثي في ثوبه، فناداه ربه تبارك وتعالى: يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى وعزتك و لكن لا غنى بي عن بركتك”[1].

 

وأخلف الله له أهله، كما قال سبحانه: ﴿ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 84].

 

قيل: أحياهم الله بأعيانهم، وقيل: عوضه الله عنهم في الدنيا بدلهم، وقيل غير ذلك، رحمة منا ورأفة وإحسانًا وذكر للعابدين[2].

 

ومن الدروس والعبر المستفادة من قصة نبي الله أيوب – عليه السلام -:

أولًا: ابتلاء الله تعالى لنبيه أيوب – عليه السلام -، وأن هذا البلاء لم يزده إلا صبرًا، واحتسابًا، وحمدًا، وشكرًا، حتى إن المثل ليضرب بصبره – عليه السلام -، ويضرب المثل بما حصل له من أنواع البلاء. قال السدي: “تساقط لحمه حتى لم يبق إلا العظم، والعصب”، روى أبو يعلى في مسنده من حديث أنس بن مالك: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “إن نبي الله أيوب لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلان من إخوانه، كانا يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدهما لصاحبه ذات يوم: تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنبًا ما أذنبه أحد من العالمين، فقال له صاحبه: وما ذاك؟ قال: منذ ثمان عشرة سنة لم يرحمه الله فيكشف ما به، فلما راحا إلى أيوب، لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له، فقال أيوب: لا أدري ما تقولان، غير أن الله تعالى يعلم أني كنت أمر بالرجلين يتنازعان فيذكران الله فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكر الله إلا في حق…”[3] الحديث.

 

وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث مصعب بن سعد عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل من الناس، يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة خفف عنه، وما يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على ظهر الأرض ليس عليه خطيئة”[4].

 

ثانيًا: أن يقال: يا أهل البلاء، يا من ابتليتم في أموالكم، أو أولادكم، أو أنفسكم اصبروا، واحتسبوا، فإن العوض من الله، قال تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 155 – 157].

 

قال ابن كثير: “هذه تذكرة لمن ابتلي في جسده، أو ماله، أو ولده، فله أسوة بنبي الله أيوب، حيث ابتلاه الله بما هو أعظم من ذلك، فصبر واحتسب حتى فرج الله عنه”[5].

 

قال الشاعر:

إذا بليتَ فثِقْ باللهِ وارضَ به 
إنّ الذي يكشفُ البلْوى هوَ الله 
إذا قضى الله فاستسلم لقدرته 
فما ترى حيلة فيما قضى الله 

 

ثالثًا: أن من أصيب بمصيبة فصبر واحتسب واسترجع عوضه الله خيرًا مما فاته، كما حصل لأيوب – عليه السلام -، روى مسلم في صحيحه من حديث أم سلمة – رضي الله عنها -: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي، واخلف لي خيرًا منها إلا أخلق الله له خيرًا منها” قالت: فلما توفى أبوسلمة قلت: من خير من أبي سلمة صاحب رسول الله – صلى الله عليه وسلم -؟ ثم عزم الله لي فقلتها، قالت: فتزوجت رسول الله – صلى الله عليه وسلم -[6].

 

رابعًا: أن في هذا رسالة للزوجات المؤمنات بأن يصبرن على مرض أزواجهن، أو فقرهم، أو غير ذلك مما يحصل لهم، ولهن في ذلك قدوة امرأة أيوب – عليه السلام -، وكيف صبرت واحتسبت حتى كشف عن زوجها الغمة، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أنس بن مالك – رضي الله عنه-: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر، ولو صلح لبشر أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها”[7]، وفي رواية: أن امرأة قالت: يا رسول الله ما حق الزوج على زوجته؟ فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “حق الزوج على زوجته أن لو كانت قرحة فلحستها ما أدت حقه”[8].

 

خامسًا: أن الله تعالى يجعل لأوليائه المتقين فرجًا ومخرجًا، فإن أيوب حلف أن يضرب امرأته مئة سوط، قال ابن كثير: فلما عافاه الله – عز وجل- أفتاه أن يأخذ الضغث، وهو شمراخ النخل، فيضربها ضربة واحدة، ويكون هذا بمنزلة الضرب بمئة سوط، ويبر ولا يحنث، وهذا من الفرج والمخرج لمن اتقى الله، وأطاعه، ولا سيما في حق امرأته الصابرة المحتسبة الصِّدِّيقة البارة الراشدة؛ ولهذا عقب الله هذه الرخصة وعللها بقوله: ﴿ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص: 44][9].

 

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين


[1] برقم (٢٧٩).

[2] البداية والنهاية (1 /507-509).

[3] (6 /299) برقم (٣٦١٧)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1 /53-54) برقم (١٧).

[4] (3 /78) برقم (1481) وقال محققوه: إسناده حسن.

[5] البداية، والنهاية (1 /513).

[6] برقم (٩١٨).

[7] جزء من حديث برقم (١٢٦١٤)، وقال محققوه: صحيح لغيره.

[8] صحيح ابن حبان برقم (٤١٥٢).

[9] البداية والنهاية، (1 /514).

 

 

 

 

فوائد وعِبَر من ابتلاء أيوب (عليه السلام)

 

 

 

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أمَّا بعد: كان أيوبُ – عليه السلام – غنيًّا يتقلَّب في نِعَمِ اللهِ تعالى، وكان شاكراً لِنِعَمِ الله، عارفاً حقَّ ربه، ولم تَفتِنْه الدنيا. ولِحِكْمَةٍ أرداها اللهُ تعالى نزل به البلاءُ فذهب ماله، ومات أولاده، وانصرف عنه مَنْ حوله، ولم يبق معه إلاَّ زوجه، واثنان من كِرامِ أصحابه يَغْدوان عليه ويروحان فيأنس بهما. وامتد به البلاءُ فطال جسدَه، فأصابه الضُّرُّ والنَّصَبُ والإِعياءُ حتى لا يستطيع الحركة إلاَّ بمعونة زوجه. وعاش أيوبُ – عليه السلام – صابراً على البلاء، حامداً لله، فكان مُطيعاً لله تعالى في حالتي الرخاء والبلاء.

 

ومُجملُ قصةِ أيوبَ جاءت في قوله تعالى: ﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 83، 84]. فالله تعالى ذَكَرَ أيوبَ في مقام الثناء عليه؛ حين ابتلاه، ببلاء شديد؛ وتقرَّح قروحاً عظيمة، ومَكَثَ مدة طويلة، واشتد به البلاء، وذهب ماله، فوجده صابراً راضياً عنه.

 

وذات يومٍ نادى أيوبُ ربَّه: ربِّ ﴿ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ فتوسَّل إلى الله بالإخبار عن حاله، وأنه بلغ الضُّرُّ منه كلَّ مبلغ، فاستجاب الله له برحمته الواسعة، وقال له: ﴿ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ﴾ [ص: 42] فركض الأرضَ برجله فخرجت عينُ ماءٍ باردة فاغتسلَ منها وشَرِبَ، فأذهب الله عنه ما به من الأذى، وردَّ الله عليه أهلَه ومالَه ﴿ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ ﴾ بأنْ مَنَحَه الله العافيةَ من الأهل والمال شيئا كثيراً، وجعله ﴿ ذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ﴾ أي: عِبْرةً للعابدين، الذين ينتفعون بالعِبَر، فإذا رأوا ما أصابه من البلاء، ثم ما أثابه الله بعد زواله، ونظروا السبب، وجدوه الصبر؛ ولهذا أثنى الله عليه به في قوله: ﴿ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص: 44].

 

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ نَبِيَّ اللهِ أَيُّوبَ – عَلَيْهِ السَّلاَمُ – لَبِثَ فِي بَلاَئِهِ ثَمَانَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَرَفَضَهُ الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ إِلاَّ رَجُلَيْنِ مِنْ إِخْوَانِهِ كَانَا مِنْ أَخَصِّ إِخْوَانِهِ؛ كَانَا يَغْدُوَانِ إِلَيْهِ وَيَرُوحَانِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: تَعْلَمُ، وَاللهِ لَقَدْ أَذْنَبَ أَيُّوبُ ذَنْبًا مَا أَذْنَبَهُ أَحَدٌ مِنَ الْعَالَمِينَ. فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: مُنْذُ ثَمَانَ عَشْرَةَ سَنَةً لَمْ يَرْحَمْهُ اللهُ، فَيَكْشِفَ مَا بِهِ.

 

فَلَمَّا رَاحَ إِلَيْهِ؛ لَمْ يَصْبِرِ الرَّجُلُ حَتَّى ذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ أَيُّوبُ: لاَ أَدْرِي مَا تَقُولُ؛ غَيْرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ أَمُرُّ عَلَى الرَّجُلَيْنِ يَتَنَازَعَانِ، فَيَذْكُرَانِ اللهَ تَعَالَى، فَأَرْجِعُ إِلَى بَيْتِي، فَأُكَفِّرُ عَنْهُمَا كَرَاهِيَةَ أَنْ يُذْكَرَ اللهُ إِلاَّ فِي حَقٍّ.

 

وَكَانَ يَخْرُجُ إلى حَاجَتِهِ، فَإِذَا قَضَى حَاجَتَه؛ أَمْسَكَتِ امْرَأَتُهُ بِيَدِهِ حَتَّى يَبْلُغَ، فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ؛ أَبْطَأَ عَلَيْهَا، فَأَوْحَى اللهُ إِلَى أَيُّوبَ فِي مَكَانِهِ: ﴿ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ﴾ [أي: اضْرِب الأرضَ بها] ﴿ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ﴾، وَاسْتَبْطَأَتْهُ فَتَلَقَّتْهُ تَنْظُرُ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهَا قَدْ أَذْهَبَ اللهُ مَا بِهِ مِنَ الْبَلاَءِ وَهُوَ عَلَى أَحْسَنِ مَا كَانَ، فَلَمَّا رَأَتْهُ؛ قَالَتْ: أَيْ بَارَكَ اللهُ فِيكَ؛ هَلْ رَأَيْتَ نَبِيَّ اللهِ هَذَا الْمُبْتَلَى؟ وَاللهِ عَلَى ذَلِكَ؛ مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَشْبَهَ بِهِ مِنْكَ إِذْ كَانَ صَحِيحًا. قَالَ: فَإِنِّي أَنَا هُوَ.

 

وَكَانَ لَهُ أَنْدَرَانِ [الأندر: هو البَيْدَر] أَنْدَرٌ لِلْقَمْحِ، وَأَنْدَرٌ لِلشَّعِيرِ، فَبَعَثَ اللهُ سَحَابَتَيْنِ، فَلَمَّا كَانَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى أَنْدَرِ الْقَمْحِ؛ أَفْرَغَتْ فِيهِ الذَّهَبَ حَتَّى فَاضَتْ، وَأَفْرَغَتِ الأُخْرَى عَلَى أَنْدَرِ الشَّعِيرِ الْوَرِقَ حَتَّى فَاضَتْ» صحيح – رواه ابن حبان، والبزار، والحاكم.

 

عباد الله.. كثير من الناس إذا نزل به البلاءُ اشتكى اللهَ تعالى إلى الخلق، وهذا دليلٌ على ضَعفِ في الإيمان، وفسادِ في المعتقد، وربما سَخِطوا على ربهم، واعترضوا على حُكمه، وهذا الاعتراض فيه تطاول وسوءُ أدبٍ مع الله تعالى، وسوءُ ظنٍّ بالله تعالى، قال ابنُ القيم – رحمه الله: (وأنتَ تُشاهِدُ كثيراً من الناس إذا أصابه نوع من البلاء يقول: يا ربي! ما كان ذنبي حتى فعلتَ بي هذا؟ وقال لي غيرُ واحدٍ: إذا تبتُ إليه، وأنبتُ وعَمِلتُ صالحاً؛ ضيَّق عليَّ رِزقي، ونَكَّد عليَّ مَعيشتي، وإذا رجعتُ إلى معصيتِه، وأعطيتُ نفسي مُرادها؛ جاءني الرِّزق والعون ونحو هذا. فقلتُ لبعضهم: هذا امتحانٌ منه؛ لِيَرَى صِدْقَك وصبرَك، هل أنت صادق في مجيئك إليه، وإقبالك عليه، فتصْبِر على بلائه، فتكون لك العاقبة؟ أم أنت كاذِبٌ فترجع على عقبك؟).

 

وبعضهم يدَّعي: أنَّ كثرة المصائب التي تحل به بسبب كونه مؤمناً، فيُشدِّد الله عليه البلاء؛ لِحُبِّه إياه! مع أنه مرتكب للمعاصي بأنواعها، ومنحرف عن منهج الكتاب والسُّنة، قال ابن تيمية – رحمه الله -: (قد تُصيب المؤمنين بالله ورسوله مصائِبُ بسبب ذنوبهم، لا بما أطاعوا فيه الله والرسول؛ كما لحقهم يوم أحدٍ بسبب ذنوبهم، لا بسبب طاعتهم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم). والتفريق بين الابتلاء والعقوبة يحتاج إلى بصيرةٍ في الدِّين، ومعرفةٍ بالسُّنن وطبيعتها، ودراسةٍ واعية لأحوال الناس، ومقدار صلاحهم وفسادهم، وقُربهم وبُعدهم من دينهم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله… أيها المسلمون.. في ابتلاء أيوب – عليه السلام – فوائدُ وعِبَرٌ كثيرة، منها: أنَّ الصبر على البلاء من أخلاق الأنبياء والصالحين، وعاقِبتُه حَسَنة، وما أُعطي أحد عطاءً خيراً وأوسعَ من الصبر، وأنَّ الأنبياء هم أشد الناس ابتلاءً وصبراً على البلاء؛ ولذا أصبح أيوب – عليه السلام – أُسوةً حسنةً لمَنْ ابتُلي بأنواع البلاء، قال ابن كثير – رحمه الله -: (مَنْ ابْتُلِىَ في جسده، أو ماله، أو ولده، فله أُسوةٌ بنبيِّ الله أيوب؛ حيث ابتلاه الله بما هو أعظم من ذلك، فصَبَر واحتسَبَ، حتى فرَّج اللهُ عنه). ومَنْ امتُحِنَ في الدنيا بمحنة، فتلقَّاها بجميل الصبر، وجزيل الحمد؛ رُجِيَ له كشفها عنه في الحياة الدنيا، مع حُسن الجزاء في الآخرة.

 

ومن الفوائد: أنَّ التداوي أمْرٌ مشروع لا يُنافي الصبر؛ فقد أمَرَ اللهُ تعالى أيوبَ – عليه السلام – بأنْ يأخذ بأسباب العلاج، فقال له: ﴿ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ﴾. والعبودية هي أعلى المقامات التي يتشرَّف الإنسانُ بالوصول إليها؛ فإنَّ أيوب – عليه السلام – شَكَرَ نِعمةَ الله عليه في السراء، وصَبَرَ على قضاء الله وقدره في الضراء، ولذلك أثنى الله عليه بقوله: ﴿ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ وقال سبحانه: ﴿ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ ﴾ [ص: 41] فوصفه بالعبودية. ومن الفوائد: أنَّ المرأة الصالحة هي التي تُسعِد زوجها وتقف معه عند اشتداد المحن والبلايا، فلا تتركه إذا مرض، ولا تُعيره إذا افتقر.

 

عباد الله.. إنَّ الرضا بقدر الله تعالى والتسليم الكامل بذلك يُنْزِلُ السكينةَ في قلب المؤمن، ويزيده طمأنينة، وأمناً وإيماناً، والصبر على المكاره يُزيل من النفوس الهمَّ والغمَّ، فيعيش المؤمنُ في غاية السعادة، واللهُ تعالى يجعل لأوليائه المتقين فَرَجاً ومَخْرجاً. وأمَّا المُتضجِّر بقضاء الله؛ فإنه يعيش حياة البؤس والشقاء، وكذا التحسر على ما فات لا ينفع شيئاً، وإنما الذي ينفع هو التوجه إلى الله بالتَّضرُّع؛ كما فعل أيوب – عليه السلام.

 

وفي دعاءِ أيوبَ – عليه السلام – ومناجاتِه ربَّه آدابٌ ينبغي أن نراعيها ونتعلمها منه، قال تعالى: ﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ فقد عَرَضَ حالَه على الله تعالى وحده، وكأنه يقول: هذه هي حالي، فإنْ كانت تُرضيكَ هذه الأمراض والآلام التي تؤرِّقني، ويُرضيك فقري، وزوال أموالي وأولادي؛ فلا شكَّ أنه يُرضيني، وإنْ كان عفوك وكرمك ورحمتك تقضي أن ترحَمَني وتُزِيل ما بي من بؤسٍ وألمٍ؛ فالأمر كله راجع إليك، ولا حول ولا قوة إلاَّ بك.

 

وهناك خَلْطٌ وقَعَ في تصوُّر الرجل الذي تكلَّم على أيوب – عليه السلام – حول حقيقة الابتلاء، فلم يُفرِّق بين الابتلاء والعقوبة؛ ولذا لمَّا سَمِعَ أيوبُ – عليه السلام – كلامَه؛ استعرض أعماله؛ فلم يجد إلاَّ خيراً، وقال – مُقَوِّماً كلامه: (لا أدري ما تقول). فليس كل ابتلاء مرجعه وسببه الذنوب والمعاصي، فلا ينبغي أن نُسِيءَ الظنَّ بمن حلَّت بهم المصائب، وقد يسيءُ الظنَّ بربه إنْ كانت هذه المصائب من نصيبه!

 

ومن العلامات التي يُفرَّق بها بين الابتلاء والعقوبة: أنَّ الابتلاء يقع مع الإيمان والاستقامة على منهج الله، واشتدادُ الابتلاء في هذه الحال دليل على قوة الإيمان؛ ولذلك فإنَّ الأنبياء هم أشد الناس بلاءً، ثم الأمثل فالأمثل. وأما العقوبة فتقع بسبب الذنوب والمعاصي، والانحراف عن المنهج الصحيح، وكلما زادت الذنوب والمعاصي، وكَبُر حجم الانحراف؛ اشتدَّتْ العقوبة. والابتلاءُ علامةٌ على حبِّ الله للعبد ورضاه عنه، بينما العقوبة إشارةٌ إلى غضب الله سبحانه، وعدم رضاه عن العبد.

 

وتعجيل العقوبة في الدنيا خير من تأخيرها؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَفَّى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» حسن – رواه الترمذي.

 

 

 

 

مدرسة الأنبياء في وقت البلاء

أولًا: مدرسة أيوب عليه السلام

 

 

 

 

لقد تعبَّدَنا الله تعالى إذ أمرنا بالدعاء ووعدنا بالاستجابة؛ لأنه أكبر دليل على الفقر والحاجة، والذل والعبودية لله رب العالمين.

 

والعبد ما دام في دار الابتلاء لا بد أن يُصاب إما في بدنه أو ماله أو ولده؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 155]، أو يُبتلَى بالهم والخزي، فأرشدنا الله تعالى إلى سؤاله واللجوء إليه في السراء والضراء؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186]، فالعبد الفقير الذليل الصغير الضعيف يفرُّ إلى الغني العزيز الكبير القوي، سبحانه وتعالى، راجيًا منه تفريج الكربات، وكشف الهموم والغموم، والنجاة من كل همٍّ وخزي؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: ((وإذا سألت فاسأل الله))[1]، والمتأمل في سورة الأنبياء سيجد إمامًا وقدوة في الأنبياء عليهم السلام، خاصة أيوبَ وزكرياء ويونس كنماذجَ يُهتدى بها عند الحاجة والبلاء والتمحيص، فتعالَوا معي ندخل – في هذا اللقاء الأول – المدرسة الأيوبية؛ علَّنا نتعلم ونسير على خطاه عند نزول الأسقام، وحلول العلل في الأبدان بعد الصحة والعافية.

 

مدرسة أيوب عليه السلام: مكتوب على بابها: ﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 83، 84]، بعد الاستئذان ها نحن ندخل على أيوب عليه السلام وهو على فراش المرض[2]، من أجل أن نتعلم منه كيفية إدارة الأزمة الصحية كما سطر القران الكريم على لسانه: ﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ ﴾ [الأنبياء: 83]، أيوب الذي وصفه الله تعالى بالصابر: ﴿ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ ﴾ [ص: 44]، وأثنى عليه أنه معلمنا في هذه المدرسة، وقدوةُ كلِّ مَن ابتُليَ بالأمراض علَّه يسير على منهاجه ويقتبس من أنواره، ويستنير بدعائه إذا ادلهمَّت الخطوب.

 

تدبر معي هذا المقطع القرآني العجيب الذي يرشد فيه الله تعالى نبيه عليه السلام وكل من جاء بعده إلى التدبر في محنة أيوب عليه السلام، وكيف تعامل صابرًا ومحتسبًا مع هذا المصاب الجلل، بحيث فرَّ من حوله وقوته، ولجأ إلى النافع الضار، وطلب من الشافي، وناداه باسم عظيم من أسمائه الحسنى: الرحيم: ﴿ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 83] متأدبًا، راضيًا ثابتًا، صبورًا، شكورًا ﴿ مَسَّنِيَ الضُّرُّ ﴾، من غير يأس ولا قنوط، ولا تضجر ولا تسخط، متيقنًا بأن الشافي هو الله، والنافع هو الله، لم يمِلْ قلبه يمنة ولا يسرة إلى غير الله قِيد أنملة؛ وفي ذلك قال ابن القيم رحمه الله: “جَمَعَ مع الدعاء حضور القلب وجمعيته بكليته على المطلوب… وإذا صادف خشوعًا في القلب، وانكسارًا بين يدي الرب، وذلًّا له، وتضرعًا، ورقةً… ثم قدم بين يدي حاجته التوبة والاستغفار، ثم دخل على الله، وألحَّ عليه في المسألة، وتملقه ودعاه رغبةً ورهبةً.

 

وتوسل إليه بأسمائه وصفاته وتوحيده، وقدَّم بين يدي دعائه صدقةً، فإن هذا الدعاء لا يكاد يُرَدُّ أبدًا…”[3].

 

فجاء الجواب بسرعة بفاء التعقيب مباشرة بعد الدعاء: ﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ ﴾ [الأنبياء: 84]؛ لأن القلب الداعي قويُّ الإيمان متيقن بالاستجابة، فجاء المدد الرباني: ﴿ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ ﴾ [الأنبياء: 84]؛ نزلت الرحمة، نزل العفو والعافية وكشف الألم والأنين والأوجاع، إنها مدرسة الصبر واليقين، والرضا والعبودية في السراء والضراء، فالمعدن النفيس لا تغيره الأزمات، ولا يتنازل عن المبادئ، مهما كانت الظروف والأحوال؛ لذلك قال تعالى: ﴿ وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 84]، في سورة الأنبياء، ﴿ وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 43]، ففي قصة أيوب أعظم ذكرى وعبرة للعبد اللبيب الذي أسلم وجهه لله تعالى، وعبد الله تعالى بأسمائه الحسنى؛ ومنها المجيب؛ الذي قال فيه الغزالي: “هو الذي يقال مسألة السائلين بالإسعاف، ودعاء الداعين بالإجابة، وضرورة المضطرين بالكفاية، بل ينعم قبل النداء، ويتفضل قبل الدعاء، وليس ذلك إلا لله عز وعلا، فإنه يعلم حاجة المحتاجين قبل سؤالهم، وقد علمها في الأزل، فدبَّر أسباب كفاية الحاجات بخلق الأطعمة والأقوات، وتيسير الأسباب والآلات الموصلة إلى جميع المهمات”.

 

والشافي: ﴿ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴾ [الشعراء: 80]، والسميع والبصير… فكن عبدًا لله شاكرًا عند النعم والخيرات، صابرًا عند النقم والمضرات، تائبًا مستغفرًا عند الغفلة والزلات؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: ((عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًاله))، فالإيمان بالقدر خيره وشره ركنٌ ركين من أركان الإيمان، ومن أهم ثمراته: عدم القنوط والتسخط عند نزول النقم؛ قال علي رضي الله عنه: “إنك إذا صبرت جرت عليك المقادير وأنت مأجور، وإن جزعت جرت عليك المقادير وأنت مأزور”؛ وقال عليه الصلاة والسلام: ((مَثَلُ المؤمن كمثل خامة الزرع يفيء ورقه من حيث أتتها الريح تُكفِّئها، فإذا سكنت اعتدلت، وكذلك المؤمن يُكفَّأ بالبلاء، ومثل الكافر كمثل الأرزة صماء معتدلةً حتى يقصمها الله إذا شاء)).[4]

 

قال النووي: “قال العلماء: معنى الحديث أن المؤمن كثير الآلام في بدنه أو كاهله أو ماله، وذلك مكفر لسيئاته ورافع لدرجاته…”.

 

إن الله تعالى إذا أحب عبدًا ابتلاه تمحيصًا وتطهيرًا من الذنوب والآثام؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((يود أهل العافية يوم القيامة حين يُعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قُرضت في الدنيا بالمقاريض))[5].

 

فالدعاء سلاح المؤمنين الصالحين المخبتين مع تعاقب الزمان وتغير الأحوال؛ قال ابن القيم رحمه الله: “والدعاء من أنفع الأدوية، وهو عدو البلاء، يدافعه ويعالجه، ويمنع نزوله، ويرفعه أو يخففه إذا نزل، وهو سلاح المؤمن”[6].

 

الصبر الصبر يا أهل البلاء، تفوزوا بالجنة؛ كما قال عليه السلام: ((إن الله تعالى قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه، فصبر، عوضته منهما الجنة”[7]، فالدعاء الدعاء يا صاح… وترصَّد ساعات الإجابة ليوم الجمعة، ووقت السحر، والثلث الأخير من الليل، ودبر الصلوات المفروضة، وبين الأذان والإقامة وفي السجود… وألحَّ في الدعاء وأيقن بالإجابة؛ قال ابن القيم رحمه الله: “وكذلك الدعاء، فإنه من أقوى الأسباب في دفع المكروه، وحصول المطلوب، ولكن قد يتخلف أثره عنه، إما لضعفه في نفسه – بأن يكون دعاءً لا يحبه الله، لِما فيه من العدوان – وإما لضعف القلب وعدم إقباله على الله وجمعيته عليه وقت الدعاء، فيكون بمنزلة القوس الرخو جدًّا، فإن السهم يخرج منه خروجًا ضعيفًا، وإما لحصول المانع من الإجابة: من أكل الحرام، والظلم، ورين الذنوب على القلوب، واستيلاء الغفلة والشهوة واللهو، وغلبتها عليها.

 

كما في مستدرك الحاكم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة)).

 

كتبه الفقير إلى رحمة ربه: عبدالعزيز أبراو، أستاذ وواعظ ومكون الأئمة في مدينة خنيفرة بالمغرب، يوم: فاتح ذي القعدة 1441، الموافق: 22 يونيو 2020، ولله الحمد والمنة.

 

 

 

 

 

خطبة ﴿ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا ﴾

دروس وعبر من قصة نبي الله أيوب عليه السلام

 

 

 

 

الحمد لله رب العالمين؛ أما بعد:

فعباد الله، نبي من أنبياء الله ذُكر في القرآن أربع مرات، ولم يذكر الله عنه لمن أُرسل، ومن هم قومه، ولكن ذكره بصفة تميز بها؛ فقال الله عنه: ﴿ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا ﴾ [ص: 44]؛ إنه نبي الله أيوب عليه السلام.

ذكر الله قصته في القرآن في موضعين في سورة الأنبياء وسورة ص؛ فقال تعالى في سورة ص: ﴿ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ *وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ * وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص: 41 – 44].

وأما قصته كما ذكرها المفسرون، أن أيوب عليه السلام كان غنيًّا أغناه الله بشتى أنواع وأصناف المال، وأعطاه صحة في البدن، ورزقه بالزوجات والأولاد والذرية، والخيرات العظام والنعم الكثيرة.

فأراد الله به البلاء؛ فابتلاه بمرض في جسده؛ حيث لم يبقَ في جسده مغرِزُ إبرة سليمًا سوى قلبه، وابتلاه الله بذَهاب ماله وولده كلهم، وتركه القريب والبعيد، فلم تبق معه إلا زوجته، حفِظت وده؛ فكانت تخدُمه وتقوم على شؤونه كلها، فمكث في ذلك كما قال بعض العلماء ثماني عشرة سنة، وقد كانت لزوجته الصابرة الوفية المحتسبة قصة معه؛ حيث غضب عليها يومًا من الأيام، فحلَفَ إن شفاه الله أن يضربها مائة جلدة، فبعد أن شُفِيَ أراد فعل ما حلف، فأفتاه الله وأوجد له مخرجًا بأن يأخذ شماريخ، وفيها مائة قضيب فيضربها به، وبرَّت يمينه بذلك، ولا يُكفِّر؛ فقال تعالى: ﴿ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ ﴾ [ص: 44]، ثم لما طال به الحال، واشتد به البلاء بعد هذه السنين، دعا ربه؛ فقال تعالى عنه: ﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 83]، وقال: ﴿ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ﴾ [ص: 41]، فعندها أمره الله عز وجل وأوجد له العلاج؛ فقال له: ﴿ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ﴾ [ص: 42]، فأمره أن يضرب برجله الأرض، فخرج منها ماء بارد، فاغتسل وشرب منه؛ فقال تعالى بعدها: ﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ ﴾ [الأنبياء: 84]، فشُفِيَ وعُوفِيَ من المرض، ثم بعدها رزقه الله الخيراتِ الكثيرات من أموال وأولاد وصحة وعافية؛ جزاءً له على صبره على البلاء؛ فقال تعالى: ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 43]؛ قيل: إن الله تعالى أحيا له أولاده بعد مماتهم، وقيل: ردهم إليه بأعيانهم ﴿ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ ﴾؛ أي: زاد إليه مثلهم، ﴿ رَحْمَةً مِنَّا ﴾ بعبدنا أيوب؛ حيث صبر وثبت فأثبناه من رحمتنا ثوابًا عاجلًا وآجلًا، ﴿ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾، وفي آية أخرى: ﴿ وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 84]؛ أي: وليتذكر أولو العقول بحالة أيوب ويعتبروا، فيعلموا أنَّ مَن صبر على الضر، أن الله تعالى يثيبه ويستجيب دعاءه إذا دعاه، وحتى لا يظن أهل البلاء أنما فعلنا بهم ذلك لهوانهم علينا.

أيها المؤمنون، إن في قصة أيوب مواعظَ وعِبَرًا؛ ومنها:

• من أعظم الدروس البارزة والظاهرة في هذه القصة “البلاء والصبر”، فالبلاء لا ينفك عن أحد من البشر، فقد يبتلي الله من يحب ومنهم الأنبياء والصالحون؛ رفعة له في الدرجات، وتكفيرًا للسيئات، ورفعة في الجنات؛ وقد ورد في الحديث قال صلى الله عليه وسلم: ((أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثل، يُبتلَى الناس على قدر دينهم))؛ [صححه الألباني]، فمنهم من يُبتلى في جسده، ومنهم يُبتلى بالفقر، ومنهم من يُبتلى بفقد أحبابه وخِلَّانه، وهذا نبي الله ابتلاه الله بكل هذه البلايا والمصائب.

• أيها المؤمنون: الواجب على من ابتُليَ بمصيبة أيًّا كانت، فعليه بالصبر واحتساب الأجر من الله عز وجل، فأجر الصابر عظيم وقدره كبير؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10].

• من الفوائد أن المبتلى إما أن يصبر فينال الأجور العظيمة والدرجات العالية، وإما أن يجزع ويتسخط ولا يصبر، فيحرم نفسه الأجر ويوقع نفسه في الإثم، وعلينا أن نعلم جميعًا أن التسخط والجزع لن يُعيد ما فُقد من صحة ومال وولد، فالواجب الصبرُ الصبرُ، ولو طال الأمد.

• حال المؤمن مع البلاء والسراء الصبر والشكر؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له))؛ [رواه مسلم].

عباد الله: من الفوائد والعِبَرِ كذلك في هذه القصة، فبعد هذا البلاء العظيم دعا ربه؛ فقال الله: ﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 83]، فالدعاء أمره عظيم وشأنه جليل، فعلى العبد أن يتوجه إلى ربه في الضراء، وأن يتضرع إليه ويتوسل، ولا يقنط، ولا ييأس، فالدعاء عبادة عظيمة، فيا أيها المبتلَى، توجه إلى ربك في ساعات الإجابة في الثلث الأخير من الليل، وفي السجود، وبين الأذان والإقامة، وألحَّ على ربك بالسؤال؛ فإن الله يحب من عبده الإلحاح والإكثار من الدعاء، فإن ربك قريب سميع الدعاء.

قال ابن القيم رحمه الله: “جمع في هذا الدعاء بين حقيقة التوحيد، وإظهار الفقر والفاقة إلى ربه، ووجود طعم المحبة في المتملِّق له، والإقرار له بصفة الرحمة، وأنه أرحم الراحمين، والتوسل إليه بصفاته سبحانه، وشدة حاجته وفقره، ومتى وجد المبتلى هذا كشف عنه بلواه”.

• ثم قال الله له: ﴿ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ﴾ [ص: 42]، اركض برجلك فيه أهمية اتخاذ الأسباب، وهو أمر شرعي أمَرَنا به مع الاعتماد والتوكل على الله، فالله قادر على أن يخرج الماء له بدون تحريك رجليه، ولكن يريد منه بذل السبب للعلاج، كذلك عند فلق البحر لموسى عليه السلام؛ قال له: ﴿ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ ﴾ [الشعراء: 63]، مع ضعف العصا أمام البحر العظيم، ولكن جعلها سببًا لذلك.

• من الفوائد والعبر؛ قال الله عنه مثنيًا عليه: ﴿ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص: 44]؛ أي: كثير الرجوع والإنابة لربه، كم نحن بحاجة إلى الأوبة والتوبة والرجوع إلى الله في كل يوم، وكل ساعة، وبعد كل معصية وذنب، نتوب ونستغفر، فالله يحب العبد الأواب التواب؛ ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ [البقرة: 222].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب؛ فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على النبي المصطفى، وآله وصحبه ومن اقتفى؛ أما بعد:

فمن الفوائد والعبر، فبعد أن صبر طوال هذه السنين، جاءه الفرج من ربه، فوهب له المال والبنين والخيرات؛ جزاء لصبره، فالله يجزي الصابر خيرًا، إما في الدنيا عاجلًا، وإما يُدَّخر له ذلك في الآخرة أجور ودرجات عالية في الجنات.

ثم ختم الله الآيات وهذه القصة بقوله: ﴿ وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 43]، وقال: ﴿ وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 84]؛ قال ابن كثير رحمه الله: “هذه تذكرة لمن ابتُليَ في جسده، أو ماله، أو ولده، فله أُسوةٌ بنبي الله أيوب؛ حيث ابتلاه الله بما هو أعظم من ذلك، فصبر واحتسب حتى فرج الله عنه”، وعلى المبتلى دائمًا أن ينظر في حالة من هو أكثر منه بلاء، وأعظم مصيبة، وقد ورد في الحديث؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تنظروا إلى من هو فوقكم، ولكن انظروا إلى من هو دونكم، فهو أجدر ألَّا تزدروا نعمة الله عليكم))؛ [رواه مسلم]، فإذا نظر العبد وخاصة المبتلى، فلا ينظر إلى من هو أفضل منه في الصحة والعافية، والمال والولد والنِّعَمِ، بل ينظر إلى من هو أقل منه حالًا، فمثل ذلك يخفف عنه، ويُسلِّيه في مصيبته، ويُعرِّفه بقدر نعمة الله عليه، ولو أصيب بمصائب جمة؛ قال الشاعر:

يا صاحب الهم إن الهم منفرج 
أبْشِرْ بخير فإن الفارج اللهُ 
إذا بليتَ فثِقْ باللهِ وارضَ به 
إنَّ الذي يكشفُ البلْوى هوَ اللهُ 
إذا قضى الله فاستسلم لقدرته 
فما ترى حيلة فيما قضى اللهُ 

عباد الله: الدنيا هذه دار بلاء وامتحان، وليست دار سعادة واستقرار، فالله الله بالصبر والاحتساب وطلب الأجر من الله الواحد الديان جل وعلا.

ألا فصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه.

 

 

 

 

 

صبر أيوب عليه السلام

 

 

 

قال الله تعالى في شأنه: ﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [الأنبياء:83]، فلقد لبث هذا النبي الكريم في المرض ثمانية عشر عامًا، حتى رفضه القريب والبعيد اللهم إلا زوجته واثنين من أبناء عمومته، فصبر واحتسب، فشفاه الله تعالى وأثنى عليه، وأعطاه من خير الدنيا؛ فقد أخرج ابن حبان بسند صحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إنَّ نبيَّ اللهِ أيُّوبَ لبث به بلاؤُه ثمانيَ عشرةَ سنةً، فرفضه القريبُ والبعيدُ، إلَّا رَجلَيْن من إخوانِه كانا يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدُهما لصاحبِه ذاتَ يومٍ: تعلمُ واللهِ لقد أذنب أيُّوبُ ذنبًا ما أذنبه أحدٌ من العالمين، فقال له صاحبُه: وما ذاك؟ قال: منذ ثمانيَ عشرةَ سنةً لم يرحَمْه اللهُ فيكشِفَ ما به، فلمَّا راحا إلى أيُّوبَ لم يصبِرِ الرَّجلُ حتَّى ذكر ذلك له، فقال أيُّوبُ: لا أدري ما تقولان غير أنَّ اللهَ تعالَى يعلمُ أنِّي كنتُ أمرُّ بالرَّجلَيْن يتنازعان، فيذكران اللهَ فأرجِعُ إلى بيتي فأُكفِّرُ عنهما كراهيةَ أن يُذكَرَ اللهُ إلَّا في حقٍّ، قال: وكان يخرُجُ إلى حاجتِه فإذا قضَى حاجتَه أمسكته امرأتُه بيدِه حتَّى يبلُغَ، فلمَّا كان ذاتَ يومٍ أبطأ عليها وأُوحي إلى أيُّوبَ أن (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ) (ص: 42) فاستبطأته، فتلقَّته تنظُرُ وقد أقبل عليها قد أذهب اللهُ ما به من البلاءِ وهو أحسنُ ما كان، فلمَّا رأته قالت: أيْ بارك اللهُ فيك، هل رأيتَ نبيَّ اللهِ هذا المُبتلَى، واللهِ على ذلك ما رأيتُ أشبهَ منك إذ كان صحيحًا، فقال: فإنِّي أنا هو: وكان له أندَران أي (بيدران): أندَرُ للقمحِ وأندَرُ للشَّعيرِ، فبعث اللهُ سحابتَيْن، فلمَّا كانت إحداهما على أندرِ القمحِ أفرغت فيه الذَّهبَ حتَّى فاض، وأفرغت الأخرَى في أندرِ الشَّعيرِ الورِقَ حتَّى فاض”.

 

فانظر إلى هذا الفضل الكبير الذي نالهُ هذا النبي الكريم لَما صبر على المرض، بل نال أفضل من ذلك أن أثنى الله تعالى عليه، فقال: ﴿ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص: 44].

 

وهكذا كشف الله تعالى عنه البلاء بعد سنوات طويلة من الصبر، وخلَّد الله تعالى ذكره في كتابه الكريم، فقال تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ * وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص: 44،41]، فيا له من مدح أن يقول الله العظيم الجليل عن عبدٍ من عباده: ﴿ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾، وهكذا ينبغي أن تكون أيها الصابر المحتسب عندما يحل بساحتك البلاء أن يقال عنكَ: ﴿ نِعْمَ الْعَبْدُ ﴾، ويقال عنك أيضًا: ﴿ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا ﴾.

 

 

 

أيُّوب عليه السلام

 

 

نتحدَّثُ في هذا الفصل عن نبيِّ الله ورسوله قدوة الصابرين المضروب به المثل في الصبر على البلاء أيوب عليه السلام، وأكثر أهل العلم على أنه من ذرِّية إبراهيم عليه السلام؛ لقوله تعالى: ﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الأنعام: 83، 84]، بناء على أن الضمير في قوله تعالى: ﴿ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ ﴾ عائدٌ على إبراهيم عليه السلام؛ لأن الكلام سيق من أجله، وقال بعض أهل العلم: إنه ليس من ذرية إبراهيم، وجعل الضمير في قوله: ﴿ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ ﴾ راجعًا إلى نوح؛ لأنه أقرب مذكور، على أن الله تبارك وتعالى قد حَصَرَ النبوَّة بعد إبراهيم في ذريته؛ حيث قال في سورة العنكبوت: ﴿ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ﴾ [العنكبوت: 27].

 

وقد اشتملت قصَّة أيوب عليه في السلام في كتاب الله تعالى وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على نقاط، منها: ابتلاؤه، وأنه مسَّه الضرُّ، وأن هذا الضرَّ أصابه في نفسه وأهله، فأحسَّ بنُصْبٍ وعذابٍ؛ أي: بتعب وألم ومشقَّة، ومنها أنه ابتُلي فحلف على فعل شيء يؤلمه تنفيذُه ويشقُّ عليه، كما أنه ابتُلي بالغنى الواسع والمال الوفير، ولم يثبت عن الله ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم تحديدُ نوع البلاء الذي أصيب به أيوب عليه السلام في جسمه؛ إلا أن القرآن العظيم يشير إلى أنه أُصيب بنوع من الحمَّى الشديدة؛ إذ جعل الله تبارك وتعالى علاجَه من مرضه أن يغتسل بماء بارد، وأن يشرب منه، وقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أُصيب بنوع من الحمى أن يغتسل بالماء البارد؛ فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الحمَّى من فيحِ جهنَّمَ، فأطفِئُوها بالماء))، وفي لفظ للبخاري من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الحمَّى من فيحِ جهنَّم فأبردُوها بالماء))، كما روى البخاري ومسلم واللفظ للبخاري من طريق فاطمة بنت المنذر أنَّ أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما كانت إذا أتيت بالمرأة قد حُمَّتْ تدعو لها، أخذتِ الماء فصبَّتْهُ بينها وبين جيبها، وقالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرُنا أن نبرِّدَها بالماء.

 

وليس كلُّ مرضٍ أو كلُّ حُمى يعالجها التبريد بالماء، إنما هو نوع خاص من الحمى؛ إذ إنَّ بعض أمراض الحمى قد يقتل المريض أن يغتسل بالماء.

 

والظاهر أن نوع المرض الذي أصاب أيوب عليه السلام كان غايةً في الشدَّةِ والوجع والألم، وليس ذلك بغريب؛ فإن أشدَّ الناس بلاءً الأنبياءُ ثم الأمثل فالأمثل، فقد روى البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يُوعَك وعكًا شديدًا، فمسسته بيدي فقلت: يا رسول الله، إنك توعك وعكًا شديدًا؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أجل، إني أُوعَكُ كما يُوعَكُ رجلان منكم))، فقلت: ذلك أن لك أجرين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أجل))، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما مِنْ مسلمٍ يُصيبه أذًى من مَرَضٍ فَمَا سِوَاهُ إلا حَطَّ اللهُ له سيئاتِه، كما تحط الشجرة ورقها)).

 

وقد أخرج الدارميُّ والنسائي في الكبرى وابن ماجه وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم كلُّهم من طريق عصام بن بهدلة عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله، أيُّ الناس أشدُّ بلاءً؟ قال: ((الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل))، وقال ابن كثير في قصص الأنبياء من البداية والنهاية: وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أشدُّ الناس بلاءً الأنبياءُ، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل)).

 

أما ما يُذكر من أن أيُّوبَ مرِضَ وطالَ مرضُه حتى عافَه الجليس، وأُخرج من بلده، وأُلقي على مزبلة خارجها، وانقطع عنه الناس، ولم يبقَ أحدٌ يحنو عليه سوى زوجته، وأن الدودَ صار يسرح ويمرح في جسده، وأنه تساقَطَ لحمُه حتى لم يبقَ إلا العظم والعصب، وأنه مَرَّ عليه في هذا المرض ثلاثُ سنوات أو سبعُ سنوات أو ثلاث عشرة سنة أو ثماني عشرة سنة، وأنه كان له أخوان صديقان فجاءا يومًا فلم يستطيعا أن يدنوا منه من ريحه فقاما من بعيد، فقال أحدهما لصاحبه: لو كان الله علم من أيوب خيرًا ما ابتلاه بهذا، فجزع أيوب جزعًا شديدًا… إلخ، وأنه لمَّا شفاه الله جاءته امرأته إلى المزبلة فلم تعرفْه، فقالت له: أين ذهب هذا المبتلى الذي كان هاهنا لعلَّ الكلابَ ذهبت به أو الذئاب؟ هذا القصص المختلق لم يثبت شيءٌ منه بخبر صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعامَّة أهل العلم على أن الله تبارك وتعالى يَحمي أنبياءه من الأمراض المُنَفِّرَة، وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن الله تبارك وتعالى أعطى أيُّوب غنًى واسعًا؛ فقد روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((بَيْنَا أيوبُ يغتسلُ عريانًا خرَّ عليه رجل جرادٍ من ذهبٍ فجعل يَحْثِي في ثوبه، فناداه ربُّه: يا أيوب، ألم أكن أغنيك عما ترى؟ قال: بلى يا رب، ولكن لا غنى لي عن بركتك)).

 

وقد ساق الله تبارك وتعالى قصَّته في موضعين من كتابه الكريم، فقال في سورة الأنبياء: ﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 83، 84]، وقد عقَّب ذلك في هذا المقام ببيانِ أن الصبر من شِيم المرسلين، فقال: ﴿ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنبياء: 85]، وقد بيَّن الله تبارك وتعالى في هذا المقامِ أنَّه تفضَّل على أيوب فاستجاب له، وكَشَفَ الضرَّ عنه، وأعطاه أهلَه ومثلَهم معهم رحمةً من الله وذكرى للعابدين.

 

وقال في سورة ص: ﴿ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ * وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص: 41 – 44].

 

وفي هذا المقامِ الكريمِ يسندُ أيوبُ الضرَّ الذي أصابه إلى الشيطانِ تأدبًا مع الله عز وجل في إسناد الشرِّ إلى الشيطان؛ لأنه سببُ كلِّ بلاء يصيب ابن آدم في الدنيا؛ حيث إنه هو المتسبب في إخراج آدم من الجنة وإهباطه إلى هذه الأرض للامتحان والابتلاء، وقد أشار الله تبارك وتعالى بقوله: ﴿ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا ﴾ الآية، والضِّغْثُ: قَبْضَةُ الحشيش المختلطةِ الرطب باليابس، وهو يشعر أنه حلف في حالة غضب أن يضرب حبيبًا له عددًا معينًا، وقد أمره الله عز وجل أن يبرَّ بيمينه، فيضرب من حلف على ضربه بهذه القبضة، مكافأةً له على صبره وإحسانه؛ لأنه لو ضربه بسوط أو نحوه لآلَم ذلك الضارب والمضروب؛ ففرَّج الله كربته، ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ [الطلاق: 2، 3].

اترك تعليقاً