تفسير الطبري سورة الفلق
تفسير سورة الفلق
بسم الله الرحمن الرحيم
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ( 1 ) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ ( 2 ) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ( 3 ) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ( 4 ) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ( 5 ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه : ( قل أعوذ برب الفلق ( 1 ) من شر ما خلق ( 2 ) ومن شر غاسق إذا وقب ( 3 ) ومن شر النفاثات في العقد ( 4 ) ومن شر حاسد إذا حسد ( 5 ) ) .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد ، أستجير برب الفلق من شر ما خلق من الخلق .
واختلف أهل التأويل في معنى ( الفلق ) فقال بعضهم : هو سجن في جهنم يسمى هذا الاسم .
ذكر من قال ذلك :
حدثني الحسين بن يزيد الطحان ، قال : ثنا عبد السلام بن حرب ، عن إسحاق بن عبد الله ، عمن حدثه عن ابن عباس قال : ( الفلق ) : سجن في جهنم .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : ثنا عبد السلام بن حرب ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة ، عن رجل ، عن ابن عباس ، في قوله : ( الفلق ) : سجن في جهنم .
حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا العوام بن عبد الجبار الجولاني ، قال : قدم رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الشأم ، قال : فنظر إلى دور أهل الذمة ، وما هم فيه من العيش والنضارة ، وما وسع عليهم في دنياهم ، قال : فقال : لا أبا لك أليس من ورائهم الفلق ؟ قال : قيل : وما الفلق ؟ قال : بيت في جهنم إذ فتح هر أهل النار .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، قال : سمعت [ ص: 700 ] السدي يقول : ( الفلق ) : جب في جهنم .
حدثني علي بن حسن الأزدي ، قال : ثنا الأشجعي ، عن سفيان ، عن السدي ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن السدي ، مثله .
حدثني إسحاق بن وهب الواسطي ، قال : ثنا مسعود بن موسى بن مشكان الواسطي ، قال : ثنا نصر بن خزيمة الخراساني ، عن شعيب بن صفوان ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : “الفلق : جب في جهنم مغطى” .
حدثنا ابن البرقي ، قال : ثنا ابن أبي مريم ، قال : ثنا نافع بن يزيد ، قال : ثنا يحيى بن أبي أسيد عن ابن عجلان ، عن أبي عبيد ، عن كعب ، أنه دخل كنيسة فأعجبه حسنها ، فقال : أحسن عمل وأضل قوم ، رضيت لكم الفلق ، قيل : وما الفلق ؟ قال : بيت في جهنم إذا فتح صاح جميع أهل النار من شدة حره .
وقال آخرون : هو اسم من أسماء جهنم .
ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سمعت خيثم بن عبد الله يقول : سألت أبا عبد الرحمن الحبلي ، عن ( الفلق ) ، قال : هي جهنم .
وقال آخرون : الفلق : الصبح .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( أعوذ برب الفلق ) قال : ( الفلق ) : الصبح .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا ابن أبي عدي ، قال : أنبأنا عوف ، عن الحسن ، في هذه الآية ( قل أعوذ برب الفلق ) قال : ( الفلق ) : الصبح .
قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير ، قال : ( الفلق ) : الصبح .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا وكيع; وحدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران جميعا ، عن سفيان ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير ، مثله . [ ص: 701 ]
حدثني علي بن الحسن الأزدي ، قال : ثنا الأشجعي ، عن سفيان ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير ، مثله .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا وكيع ، عن الحسن بن صالح ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر ، قال : ( الفلق ) : الصبح .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا الحسن بن صالح ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر بن عبد الله ، مثله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، أخبرنا أبو صخر ، عن القرظي أنه كان يقول في هذه الآية : ( قل أعوذ برب الفلق ) يقول : فالق الحب والنوى ، قال : فالق الإصباح .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( قل أعوذ برب الفلق ) قال : الصبح .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( قل أعوذ برب الفلق ) قال : ( الفلق ) : فلق النهار .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : ( الفلق ) : فلق الصبح .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : ( قل أعوذ برب الفلق ) قيل له : فلق الصبح ؟ قال : نعم ، وقرأ : ( فالق الإصباح وجعل الليل سكنا ) .
وقال آخرون : ( الفلق ) : الخلق ، ومعنى الكلام : قل أعوذ برب الخلق .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : لنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، في قوله : ( الفلق ) : يعني : الخلق .
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله جل ثناؤه أمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقول : ( أعوذ برب الفلق ) والفلق في كلام العرب : فلق الصبح ، تقول العرب : هو أبين من فلق الصبح ، ومن فرق الصبح . وجائز أن يكون في جهنم سجن [ ص: 702 ] اسمه فلق . وإذا كان ذلك كذلك ، ولم يكن جل ثناؤه وضع دلالة على أنه عني بقوله : ( برب الفلق ) بعض ما يدعى الفلق دون بعض ، وكان الله تعالى ذكره رب كل ما خلق من شيء ، وجب أن يكون معنيا به كل ما اسمه الفلق ، إذ كان رب جميع ذلك .
وقال جل ثناؤه : ( من شر ما خلق ) لأنه أمر نبيه أن يستعيذ ( من شر كل شيء ) ، إذ كان كل ما سواه ، فهو ما خلق .
وقوله : ( ومن شر غاسق إذا وقب ) يقول : ومن شر مظلم إذا دخل ، وهجم علينا بظلامه .
ثم اختلف أهل التأويل في المظلم الذي عني في هذه الآية ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة منه ، فقال بعضهم : هو الليل إذا أظلم .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( ومن شر غاسق إذا وقب ) قال : الليل .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا ابن أبي عدي ، قال : أنبأنا عوف ، عن الحسن ، في قوله : ( ومن شر غاسق إذا وقب ) قال : أول الليل إذا أظلم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثنا أبو صخر ، عن القرظي أنه كان يقول في : ( غاسق إذا وقب ) يقول : النهار إذا دخل في الليل .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن رجل من أهل المدينة ، عن محمد بن كعب ( ومن شر غاسق إذا وقب ) قال : هو غروب الشمس إذا جاء الليل ، إذا وقب .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( غاسق ) قال : الليل ( إذا وقب ) قال : إذا دخل .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن ( ومن شر غاسق إذا وقب ) قال : الليل إذا أقبل .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ( ومن شر غاسق إذا وقب ) قال : إذا جاء . [ ص: 703 ]
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله ( إذا وقب ) يقول : إذا أقبل . وقال بعضهم : هو النهار إذا دخل في الليل ، وقد ذكرناه قبل .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن رجل من أهل المدينة ، عن محمد بن كعب القرظي ( ومن شر غاسق إذا وقب ) قال : هو غروب الشمس إذا جاء الليل ، إذا وجب .
وقال آخرون : هو كوكب . وكان بعضهم يقول : ذلك الكوكب هو الثريا .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : ثنا يزيد ، قال : أخبرنا سليمان بن حبان ، عن أبي المهزم ، عن أبي هريرة في قوله : ( ومن شر غاسق إذا وقب ) قال : كوكب .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( ومن شر غاسق إذا وقب ) قال : كانت العرب تقول : الغاسق : سقوط الثريا ، وكانت الأسقام والطواعين تكثر عند وقوعها وترتفع عند طلوعها .
ولقائلي هذا القول علة من أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم . وهو ما حدثنا به نصر بن علي ، قال : ثنا بكار بن عبد الله بن أخي همام ، قال : ثنا محمد بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف ، عن أبيه ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ( ومن شر غاسق إذا وقب ) قال : ” النجم الغاسق ” .
وقال آخرون : بل الغاسق إذا وقب : القمر ، ورووا بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم خبرا .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا وكيع; وحدثنا ابن سفيان ، قال : ثنا أبي ويزيد بن هارون ، به .
وحدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب ، عن خاله الحارث بن عبد الرحمن ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن عائشة قالت : أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيدي ، ثم نظر إلى القمر ، ثم قال : “يا عائشة تعوذي بالله من شر غاسق إذا وقب ، وهذا غاسق إذا وقب” ، وهذا لفظ حديث أبي كريب ، وابن وكيع . وأما ابن حميد ، فإنه قال في حديثه : قالت : [ ص: 704 ] أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيدي ، فقال : ” أتدرين أي شيء هذا ؟ تعوذي بالله من شر هذا; فإن هذا الغاسق إذا وقب” .
حدثنا محمد بن سنان ، قال : ثنا أبو عامر ، قال : ثنا ابن أبي ذئب ، عن الحارث بن عبد الرحمن ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى القمر . فقال : “يا عائشة استعيذي بالله من شر هذا ، فإن هذا الغاسق إذا وقب” .
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب ، أن يقال : إن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ ( ومن شر غاسق ) وهو الذي يظلم ، يقال : قد غسق الليل يغسق غسوقا : إذا أظلم ( إذا وقب ) يعني : إذا دخل في ظلامه; والليل إذا دخل في ظلامه غاسق ، والنجم إذا أفل غاسق ، والقمر غاسق إذا وقب ، ولم يخصص بعض ذلك بل عم الأمر بذلك ، فكل غاسق ، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يؤمر بالاستعاذة من شره إذا وقب . وكان يقول في معنى وقب : ذهب .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( غاسق إذا وقب ) قال : إذا ذهب ، ولست أعرف ما قال قتادة في ذلك في كلام العرب ، بل المعروف من كلامها من معنى وقب : دخل .
وقوله : ( ومن شر النفاثات في العقد ) يقول : ومن شر السواحر اللاتي ينفثن في عقد الخيط ، حين يرقين عليها .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ( ومن شر النفاثات في العقد ) قال : ما خالط السحر من الرقى .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا ابن أبي عدي ، عن عوف ، عن الحسن ( ومن شر النفاثات في العقد ) قال : السواحر والسحرة .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، قال : تلا قتادة : ( ومن شر النفاثات في العقد ) [ ص: 705 ] قال : إياكم وما خالط السحر من هذه الرقى .
قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، قال : ما من شيء أقرب إلى الشرك من رقية المجانين .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كان الحسن يقول إذا جاز ( ومن شر النفاثات في العقد ) قال : إياكم وما خالط السحر .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن جابر ، عن مجاهد وعكرمة ( النفاثات في العقد ) قال : قال مجاهد : الرقى في عقد الخيط ، وقال عكرمة : الأخذ في عقد الخيط .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( ومن شر النفاثات في العقد ) قال : النفاثات : السواحر في العقد .
وقوله : ( ومن شر حاسد إذا حسد ) اختلف أهل التأويل في الحاسد الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ من شر حسده به ، فقال بعضهم : ذلك كل حاسد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ من شر عينه ونفسه .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( ومن شر حاسد إذا حسد ) قال : من شر عينه ونفسه ، وعن عطاء الخراساني مثل ذلك . قال معمر : وسمعت ابن طاوس يحدث عن أبيه ، قال : العين حق ، ولو كان شيء سابق القدر ، سبقته العين ، وإذا استغسل أحدكم فليغتسل .
وقال آخرون : بل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية أن يستعيذ من شر اليهود الذين حسدوه .
ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( ومن شر حاسد إذا حسد ) قال : يهود ، لم يمنعهم أن يؤمنوا به إلا حسدهم .
وأولى القولين بالصواب في ذلك ، قول من قال : أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ من شر كل حاسد إذا حسد ، فعابه أو سحره ، أو بغاه سوءا . [ ص: 706 ]
وإنما قلنا : ذلك أولى بالصواب; لأن الله عز وجل لم يخصص من قوله ( ومن شر حاسد إذا حسد ) حاسدا دون حاسد ، بل عم أمره إياه بالاستعاذة من شر كل حاسد ، فذلك على عمومه .
آخر تفسير سورة الفلق