الحديث القدسي كَذَّبَنِي ابنُ آدم ولم يَكُنْ له ذلك
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال اللَّه عز وجل: كَذَّبَنِي ابنُ آدم ولم يكنْ له ذلك، وشتمني ولم يكنْ له ذلك، أما تكْذِيبه إِياي فقوله: لنْ يعيدني كما بدأني، وليس أوّل الخلْقِ بِأهون عليَّ منْ إِعادتِه، وأَمَّا شَتْمُه إيَّايَ فقوله: اتخذ اللَّه ولدا، وأنا الأحد الصمد، الذي لم يلدْ ولم يولدْ ولم يكنْ له كفوا أحد) رواه البخاري. التكذيب يُقْصَد به إنكار كلام المتكلم ونسبته للكذب، والمراد به في هذا الحديث: هو إنكار الكفار قدرة الله على إحيائهم بعد موتهم، وأما الشتم فيراد به السب والاتهام بالباطل، والمراد هنا: ما يقوله الكفار مِنْ نسبة الولد إلى الله تعالى.
الحديث النبوي هو ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير. والحديث القدسي هو ما يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه تبارك وتعالى، فمعناه من الله، ولفظه من النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا الحديث القدسي: (قال اللَّه عز وجل: كَذَّبَنِي ابنُ آدم) يخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل أنه قال: (كذَّبني ابنُ آدم ولم يكن له ذلك) أي: كذبني طائفة من بني آدم، والمراد بهم المنكرون للبعث من مشركي العرب وغيرهم، وما كان ينبغي لهم أن يكذبوا الله، وما كان ينبغي لله عز وجل أن يُكذَّب. (وشتمني ولم يكن له ذلك) الشتم توصيف الشيء بما هو إزراء ونقص فيه، والمراد أن بعض بني آدم قد وصفوا الله بما فيه نقص، وهم مَنْ أثبتوا لله ولدا، وما كان ينبغي لهم أن يشتموا الله، وما كان ينبغي لله أن يُشتم. ثم فصَّل ما أجمله قائلا: (فأما تكذيبه إياي) فقوله: (لن يعيدني كما بدأني) أي: فأما تكذيب العبد لربه فزعْمه أن الله لن يحييه بعد موته كما خلقه أول مرة من عدم، وهذا كفر وتكذيب، ثم ردَّ عليهم بقوله: (وليس أول الخلق بأهون عليَّ من إعادته) أي: وليس بدء الخلق مِنْ عدم بأسهل عليَّ من الإحياء بعد الممات، بل هما يستويان في قدرتي، وقوله: (وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدا) أي: أثبتوا له ولدا {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}(التوبة:30)، وقالت العرب: الملائكة بنات الله. وهذا شتم لله تعالى وتنقص منه، وإنزاله منزلة المخلوقين، ثم رد عليهم بقوله: (وأنا الأحد) المنفرد المطلق ذاتاً وصفات، المنزه عن كل نقص والمتصف بكل كمال، (الصمد) الذي لا يحتاج إلى أحد، ويحتاج إليه كل أحد غيره، الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد. (لم يلِد) أي: لم أكن والدا لأحد، (ولم يولد) أي: ولم أكن ولدا لأحد، لأنه أول بلا ابتداء كما أنه آخر بلا انتهاء، (ولم يكن لي كفؤًا أحد) يعني: وليس لي مثلا ولا نظيرا، ونفي الكفء يعم الوالدية والولدية والزوجية وغيرها.. فالله عز وجل ليس كمثله شيء، فإنه سبحانه الكامل في صفاته الذي دلت النصوص والعقول على أنه لا نظير له سبحانه، قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}(الشورى:11). قال ابن كثير: ” {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} لأنه الفرد الصمد الذي لا نظير له”. وقال السعدي: “{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} أي: ليس يشبهه تعالى ولا يماثله شيء من مخلوقاته، لا في ذاته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، لأنَّ أسماءه كلها حسنى، وصفاته صفات كمال وعظمة، وأفعاله تعالى أوْجد بها المخلوقات العظيمة من غير مشارِك، فليس كمثله شيء، لانفراده وتوحده بالكمال من كل وجه.
قال ابن هبيرة: “في هذا الحديث (قال اللَّه عز وجل: كَذَّبَنِي ابنُ آدم) أن الله سبحانه وتعالى لما أغضبه إنكار مَنْ أنكر البعث بعد الموت فقال سبحانه: (كذبني) فزعم أني لا اٌقدر على إعادته (ولم يكن له ذلك) يعني جل جلاله: أن إيجادي لقائل هذا القول هو دليلي عليه، فنسي نفسه وشده عن حاله وأذهله باطله حتى جحد ما هو بعينه البينة فيه.. ثم قال عز وجل: (وشتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك) زعم أن لي ولدًا (فسبحاني) أي تنزهتُ (أن أتخذ صاحبة ولا ولدًا)، لأن اتخاذ الصاحبة يكون لأهل النقص لمن يموت فيكون خلفًا منه، وأما الحق سبحانه فلا نقص عنده ولا خلف منه. فهذا القول هو الذي {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا}(مريم:95:90)”..
وقال العيني: “وهذا من الأحاديث القدسية. قوله: (كذبني) من التكذيب وهو نسبة المتكلم إلى أن خبره خلاف الواقع. قوله: (ذلك) أي: التكذيب. قوله: (وشتمني)، من الشتم وهو توصيف الشخص بما هو أزرا وأنقص فيه، وإثبات الولد له كذلك لأن الولد إنما يكون عن والدة تحمله ثم تضعه، ويستلزم ذلك سبق النكاح، والناكح يستدعي باعثا له على ذلك، والله سبحانه وتعالى منزه عن جميع ذلك”.
وقال ابن حجر في “فتح الباري”: “إنما سماه شتماً لما فيه من التنقيص لأن الولد إنما يكون عن والدة تحمله، ثم تضعه، ويستلزم ذلك سبق النكاح، والناكح يستدعي باعثاً له على ذلك والله ـ سبحانه ـ مُنزه عن جميع ذلك”. وقال الهروي: “(كذبني) بسكون الباء، ويجوز فتحها، أي نسبني إلى الكذب (ابن آدم) أي هذا الجنس، والتكذيب هو الإخبار عن كون خبر متكلم غير مطابق للواقع. (ولم يكن له ذلك) أي ما صح وما استقام، وما كان ينبغي التكذيب له (وشتمني): الشتم توصيف الشيء بما هو ازراء ونقص فيه، وإثبات الولد له كذلك.. (ولم يكن) لائقا.. (فأما تكذيبه إياي): تفصيل لما أجمله”.
وقال المناوي: “(قال الله تعالى شتمني ابن آدم) أي بعض بني آدم وهم من أنكر البعث.. (وما ينبغي له أن يشتمني) أي لا يجوز له أن يصفني بما يقتضي النقص، (وكذبني وما ينبغي له أن يكذبني) أي ليس ذلك من حق مقام العبودية مع الربوبية. (أما شتمه إياي فقوله أنَّ لي ولدا) سماه شتما لما فيه من التنقيص، إذ الولد إنما يكون عن والدة تحمله، ويستلزم ذلك سبق نكاح، والناكح يستدعي باعثا، والله تعالى منزه عن ذلك. (وأنا الله الأحد).. (الصمد) أي الذي يصمد إليه في الحوائج، (لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفؤا أحد) ومن هو كذلك فكيف يُنْسَب إليه ذلك”.
فوائد:
1 ـ أخبر الله عز وجل في محكم كتابه بإعادة الخلق والإحياء بعد الإماتة فقال سبحانه: {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيبَ فِيهِ}(الجاثية:26). والإحياء أي رد الأرواح إلى الأجساد والبعث من القبور. وقد أنكر مشركو قريش البعث بعد الموت وإعادة الأبدان بشبهة أن العظام والرفات كيف تعود إلى خلقتها الأولى، فأمر الله نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم كونوا حجارة أو حديداً، وهي أعظم من العظام والرفات التي ينكرون إعادتها، فضرب الله لهم مثلاً بما هو أشد مما ينكرونه، بل قال لهم عز وجل كونوا أيَّ خلق مما يكبر في صدوركم، فإني سأعيدكم وأحيي أجسادكم. قال الله تعالى:{وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}(الإسراء:51:49). قال الطبري: “يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد للمكذبين بالبعث بعد الممات من قومك.. كونوا إن عجبتم من إنشاء الله إياكم، وإعادته أجسامكم، خلقاً جديداً، أو خلقاً مما يكبر في صدوركم إن قدرتم على ذلك، فإني أحييكم وأبعثكم خلقاً جديداً بعد مصيركم كذلك كما بدأتكم أول مرة”.
2 ـ نزه الله عز وجل نفسه عن اتخاذ الصاحبة (الزوجة) والولد، فقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ}(البقرة:116)، وقال سبحانه: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا، تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا، أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا، وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}(مريم:93:88). وبين سبحانه في آية أخرى أن الولد لا يكون إلا من صاحبة (زوجة)، وهو سبحانه لا صاحبة له، فقال عز وجل: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}(الأنعام:101). قال ابن كثير في تفسيره: “أي: كيف يكون له ولد، ولم تكن له صاحبة؟! أي: والوالد إنما يكون متولدًا عن شيئين متناسبين، والله لا يناسبه ولا يشابهه شيء من خلقه، لأنه خالق كل شيء، فلا صاحبة له ولا ولد”.
3 ـ (وأنا الأحد الصمد): “الأحد” اسم من أسماء الله تعالى الحسنى، و”الأحد”: هو الفرد الذي لم يزل وحده، ولم يكن معه آخر، وهو المنفرد بوحدانيته في ذاته، وفي ربوبيته، وألوهيته، وأسمائه وصفاته. قال ابن الأثير في “جامع الأصول”: “الأحد”: الفرد”. وقال الزجاج في “تفسير أسماء الله الحسنى”: ” الْمُنْفَرد بوحدانيته فِي ذَاته وَصِفَاته تعالى الله علوا كبِيرا”. وقال البيهقي في “الاعتقاد”: “الذي لا شبيه له ولا نظير”. وقال السعدي في “تفسير الأسماء الحسنى”: “الواحد الأحد: هو الذي توحّد بجميع الكمالات، وتفرّد بكل كمال، ومجد وجلال، وجمال، وحمد، وحكمة، ورحمة، وغيرها من صفات الكمال فليس له فيها مثيل ولا نظير، ولا مناسب بوجه من الوجوه فهو الأحد في حياته، وقيوميته، وعلمه، وقدرته، وعظمته، وجلاله، وجماله، وحمده، وحكمته، ورحمته، وغيرها من صفاته، موصوف بغاية الكمال”.
ـ و (الصمد) من أسماء الله الحسنى. قال ابن كثير في تفسيره لقول الله تعالى: {اللَّهُ الصَّمَدُ}(الإخلاص:2): “قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: هو السيد الذي قد كَمُلَ في سُؤْدُدِه، والشريف الذي قد كَمُلَ في شرفه، والعظيم الذي قد كَمُلَ في عظمته، والحليم الذي قد كَمُلَ في حلمه، والعليم الذي قد كَمُلَ في علمه، والحكيم الذي قد كَمُلَ في حكمته، وهو الذي قد كَمُلَ في أنواع الشرف وَالسُّؤْدُد، وهو الله سبحانه، هذه صفته لا تنبغي إلا له، ليس له كُفْءٌ، وليس كمثله شيء، سبحان الله الواحد القهار..
4 ـ عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا أحَدَ أصْبَرُ علَى أذًى يَسْمَعُهُ مِنَ الله عزَّ وجل، إنَّه يُشْرَكُ به، ويُجْعَلُ له الوَلَدُ، ثُمَّ هو يُعافيهم ويَرْزُقُهُم) رواه مسلم. قال ابن القيم في “عدة الصابرين”: “وصبره تعالى يفارق صبر المخلوق ولا يماثله من وجوه متعددة..”. وقال السعدي: “فالله تعالى يدرّ على عباده الأرزاق، المطيع منهم والعاصي، والعصاة لا يزالون في محاربته، وتكذيبه، وتكذيب رسله، والسعي في إطفاء دينه، والله تعالى حليم صبور على ما يقولون وما يفعلون، يتتابعون في الشرور، وهو يتابع عليهم النعم، وصبره أكمل صبر، لأنّه عن كمال قدرة، وكمال غنىً عن الخلق، وكمال رحمة وإحسان، فتبارك الربُّ الرحيم الذي ليس كمثله شيء”.