نبأ ابني آدم
الحمد لله الذي رضي من عباده باليسير من العمل، وتجاوز لهم عن الكثير من الزلل، وأفاض عليهم النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وضمن الكتاب الذي كتبه: أن رحمته سبقت غضبه، دعا عباده إلى دار السلام، فعمهم بالدعوة حجة منه عليهم وعدلاً، وخص بالهداية والتوفيق من شاء نعمة ومنة وفضلاً، فهذا عدله وحكمته، وهو العزيز الحكيم، وذلك فضله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، شهادة عبده وابن عبده وابن أمته، ومن لا غنى به طرفة عين عن فضله ورحمته، ولا مطمع له في الفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بعفوه ومغفرته.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، أرسله رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، ومحجة للسالكين، وحجة على العباد أجمعين، وقد ترك أمته على الواضحة الغراء، والمحجة البيضاء، وسلك أصحابه وأتباعه على أثره إلى جنات النعيم، وعدل الراغبين عن هديه إلى صراط الجحيم، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة، وإن الله لسميع عليم.
فصلى الله وملائكته وجميع عباده المؤمنين عليه، كما وحد الله عز وجل، وعرفنا به، ودعا إليه وسلم تسليمًا.
قوله عز وجل: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ * مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ﴾ [المائدة: 27 – 32].
هذه الآيات الكريمات في سورة المائدة تحكي لنا كيف بدأت الجريمة على الأرض، وكيف حدثت أول جريمة قتل على الأرض.
ومناسبة هذه الآيات الكريمات لما قبلها من نفس السورة، أن اليهود حسدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على النبوة والرسالة، فكأن الله عز وجل يقول له: فقل لهم: ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقِينَ ﴾ [المائدة: 27 ].
ومناسبة هذه الآيات لما بعدها أن الله عز وجل قبل أن يشرع لنا القصاص، وأن يبين لنا أحكام القصاص، بيَّن لنا كيف بدأت الجريمة، وكيف كانت أول جريمة قتل على الأرض، كذلك في هذه الآيات الكريمات عباد الله يظهر فيها كيف يدعو الحسد أهله، وكيف أن أحد ابني آدم حسد أخاه؛ لأنه تُقبِّل منه قربانُه ولم يُتقبَّل منه، فقتله من أجل ذلك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((دب إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، ألا إنها هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين)).
والحسد عباد الله هو الذي دعا إبليس ألا يسجد لآدم، وقال: ﴿ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ﴾ [الأعراف: 12]، وأبى أن يسجد لآدم تكريمًا وتنفيذًا لأمر الله عز وجل له بالسجود.
في هذه الآيات الكريمات كذلك عباد الله يظهر فيها نوعان من البشر:
النوع الأول: النوع الخير، الذي لا يستطيع أن يعمل إلا الخير، الذي يتقي الله عز وجل، ويتقبل الله عز وجل منه، والذي يخاف الله عز وجل في كل قول وعمل، إني أخاف الله رب العالمين، والذي لا تطاوعه نفسه على الشر، وعلى الإقدام على كبائر الذنوب.
والنوع الثاني عباد الله: هو الذي لا يُرزَق التوبة، ولا يخاف الله عز وجل، والذي يتجرأ على معصية الله عز وجل، وعلى الكبائر، وعلى الإفساد في الأرض دون وازع ودون رادع.
كذلك في القصة عباد الله، كيف يسول الشيطان للعبد بالمعصية، كيف يخفي عنه عواقب المعصية، وكيف يزين له الشهوات، ويدعوه إلى الإعراض عن طاعة رب الأرض والسماوات، حتى إذا وقع في معصية الله عز وجل، يكون الخسران، ويكون الندم، ويكون الصغار، ويكون الذلة، ويكون العذاب في الدنيا والآخرة.
ويقول عز وجل: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [المائدة: 27].
اختلف العلماء، فقال الجمهور: بأن هذين الرجلين من صلب آدم.
وقال الحسن البصري والضحاك: إنهما كانا من بني إسرائيل، واستدلوا على ذلك بأن الله عز وجل قال تعقيبًا على القصة: ﴿ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ﴾ [المائدة: 32].
وردَّ شيخ المفسرين ابن جرير الطبري هذا القول بثلاثة أمور:
الأمر الأول: أن كل لفظة في القرآن لا بد أن يكون لها فائدة، فلو كانا من بني إسرائيل ما كان لقول الله عز وجل: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ ﴾ [المائدة: 27] فائدة.
فنسبهم الله عز وجل لآدم، فهذا يدل على أنهما كانا ابني آدم من صلبه، ولم يكونا من بني إسرائيل.
الأمر الثاني عباد الله: أن هذه أول جريمة وقعت على الأرض، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تقتل نفس ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها)).
أي: نصيب من دمها؛ لأنه أول من سن القتل، ويستحيل ألا يكون في البشرية قتل حتى بني إسرائيل، فلا بد أن هذه الجريمة قد وقعت قبل بني إسرائيل، وتكررت في البشرية، وهذا معلوم.
الأمر الثالث: يبعد أن يجهل مَن هو مِن بني إسرائيل سُنَّةَ الدفن، وهذا الذي قتل أخاه كان لا يعرف سنة الدفن؛ لأن هذا كان أول قتيل؛ بل قالوا: أول رجل يموت على الأرض مات قبل آدم، وإنه احتار كيف يواري سوءته، وكيف يداري جريمته، وكيف يستر أخاه، فبعث الله غرابًا يبحث في الأرض؛ أي ينقب عن شيء، أو يبحث عن شيء، أو يدفن شيئًا كما هو شأن الغراب، فتنبه بذلك إلى سنة الدفن، فوارى سوءة أخيه؛ أي دفن أخاه.
فيستحيل ألا تهتدي البشرية إلى سنة الدفن، وأن يجهل الناس سنة الدفن حتى زمن بني إسرائيل.
فهذه أوجه ثلاثة عباد الله قوية في بيان أنهما من صلب آدم.
وقد قال جمهور المفسرين بأن اسم القاتل: قابيل، واسم المقتول: هابيل، والغالب أن ذلك مأخوذ من الإسرائيليات، كما قال العلامة أحمد شاكر، ولم يَرِد ذلك في كتاب الله عز وجل، ولا في الصحيح من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن قال الله عز وجل: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ ﴾ [المائدة: 27].
وهذه التفصيلات عباد الله ليست فيها عبرة وعظة؛ ولذلك يسكت عنها القرآن، فليس في تسمية الرجلين عبرة وعظة، والقصة أن أحد ابني آدم حسد أخاه؛ لأنهما قربا قربانًا إلى الله عز وجل، وكانت علامة قبول القربان والغنائم التي يغنمها المجاهدون – أن يجعلوها في مكان، فتأتي نار من السماء فتحرقها، فهذه علامة على قبول القربان، فتُقبِّل من أحدهما ولم يُتقبَّل من الآخر، قال: “لأقتلنك”، وفي الآيات حذف واختصار:
وكأنه قال: “سوف أقتلك”، وقال: “ولماذا تقتلني؟”، قال”: “لأن الله عز وجل تقبل قربانك ولم يتقبل مني”، قال: “وما ذنبي”، فدفعه ذلك إلى أن يهدده بالقتل، قال: “لأقتلنك”، قال: ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقِينَ ﴾ [المائدة: 27].
وكأن هذا الرجل عباد الله يعظ أخاه بكل أساليب الوعظ الصحيحة، ويدعوه إلى الله عز وجل، وكأنه يقول له: إنما أُتِيتَ من قِبَلِ نفسك، ومن جرأتك على الله عز وجل، ومن تركك لطاعة الله عز وجل، فلو كنت متقيًا لتقبَّل الله عز وجل منك، وقال بعض السلف: ما أنعاه على كثير من السلف أعمالهم.
قال الله عز وجل: ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقِينَ ﴾ [المائدة: 27].
بكى أحد السلف عند موته، فسئل عن سبب بكائه فقال: ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقِينَ ﴾ [المائدة: 27].
فكيف بأعمالنا عباد الله ولم نبلغ درجة التقوى، وقال ابن عمر رضي الله عنهما: “لو أعلم أن الله عز وجل يقبل مني سجدة بالليل وسجدة بالنهار، لطرت شوقًا إلى الموت؛ إن الله عز وجل يقول: ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقِينَْ ﴾ [المائدة: 27]”.
فنصح الرجل أخاه بأنه أُتِيَ من قِبَل نفسه، وأنه لو كان يتقي الله عز وجل لتقبل الله عز وجل منه، ثم قال له: ﴿ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ العَالَمِينَ ﴾ [المائدة: 28].
يذكره بالخوف من الله عز وجل، وبأن نفس الشرير لو سولت له أن يقتل أخاه، فإن المؤمن المطيع المتقي لا يمكن أن تسمح له نفسه بذلك؛ لأن نفسه مطمئنة بطاعة الله عز وجل، وعدل عن الفعل إلى اسم الفاعل، وما قال: لئن بسطت إلى يدك لتقتلني ما بسطت يدي إليك لأقتلك؛ بل قال: ﴿ مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ العَالَمِينَ ﴾ [المائدة: 28] ليدل هذا على أن هذا من سجيته، وأنه لا يمكن أن تطاوعه نفسه إلى قتل أخيه بأي حال، وأن هذا عهده، فإن قال قائل: لماذا لم يدفع عن نفسه؟ أجاب العلماء بأجوبة:
الأمر الأول: أنه قال له ذلك أولاً على سبيل التهديد، قال: “لأقتلنك” أي على سبيل التهديد، ولم يكن شرع في القتل، فنصحه أخاه وقال: ﴿ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ﴾ [المائدة: 28، 29].
فكان ذلك على سبيل التهديد، ولم يشرع في قتله حتى يدافع عن نفسه.
ويعضد ذلك ما قاله بعض المفسرين بأنه قتله عندما كان نائمًا؛ أي لم يستطع أن يدفع عن نفسه، فقتله وهو نائم.
الأمر الثاني: أنه قال له: ﴿ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ﴾ [المائدة: 28].
وليس معنى ذلك أنه لا يسط يده دفاعًا عن نفسه؛ أي أنه قد يبسط يده دفاعًا عن نفسه، ولكن لا تطاوعه نفسه لأن يسط يده ليقتل أخاه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا التقى المسلِمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار)) فقالوا: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: ((إنه كان حريصًا على قتل صاحبه))[1]؛ أي في نيته لو تمكن منه لقتله.
فقال: ﴿ مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ ﴾ [المائدة: 28]، ويجوز له أن يبسط يده ليدفع عن نفسه.
الجواب الثالث عباد الله: أنه يجوز للمؤمن إذا قصد للقتل أن يستسلم للقتل، وألا يدافع عن نفسه، كما قال سعد بن أبي وقاص للنبي صلى الله عليه وسلم: “أرأيت إن دخل علي بيتي، وبسط إلي يده ليقتلني؟”.
قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل))[2]،
وفي رواية: ((كن كخير ابني آدم))[3]؛ أي المقتول، وليس القاتل.
وكما استسلم عثمان رضي الله عنه لما ألبوا عليه، ولما قصده أصحاب الفتنة وأرادوا دمه، وكان طلحة بن عبيدالله وعلي بن أبي طالب وجماعات من المؤمنين أرسلوا أولادهم للدفاع عن الخليفة؛ فعزم عليهم ألا يدافعوا عنه؛ من أجل أن يحقن دماء المسلمين، فقتلوه ظلمًا، ووقع دمه على المصحف، وكان يقرأ في المصحف، فنزل على قول الله عز وجل: ﴿ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [البقرة: 137].
فقالوا: يجوز للعبد إذا قصد بأن يقتل أن يستسلم، ولا يدافع عن نفسه.
الأمر الرابع عباد الله: أنهم قالوا: لعل هذا كان في شريعتهم، أنه لا يجوز للرجل أن يدفع عن نفسه إذا قصد بالقتل، ولكل أمة شرعة ومنهاج، كما قال الله عز وجل، فالتوحيد واحد، ولكن التكاليف الشرعية والعبادات تختلف من أمة إلى أمة.
فهذه أربعة أجوبة عباد الله، وفي شريعتنا ما يسمى بدفع الصائل، إذا قصد مسلم بأن يقتل، أو ينتهك عرضه، أو يسلب ماله، فيشرع له أن يدافع عن نفسه، ويشرع له أن يدفع بالأخف، فإن كسَر يدَه فاندفع بذلك، لا يُجاوِز ذلك إلى قتله، وإن كسر رجله، فإن كان لا يندفع إلا بالقتل، فيجوز له أن يقتله، وهذا ما يسمى بدفع الصائل، والصائل: هو المعتدي، وليس له دية إذا قتل هذا الصائل؛ لأنه هو المعتدي، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون نفسه فهو شهيد))[4].
فهو إذا قُتِل وهو يدافع عن عرضه، أو عن ماله، أو عن نفسه – فهو شهيد بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم فهذه أجوبة لهذا العبد المقتول كيف لم يدافع عن نفسه.
فهذا أدب حسن، والقصص القرآني يقصد به التربية، ويقصد به الارتفاع بالأحوال الإيمانية في الأمة، وغرس المعاني الإيمانية الشريفة، لا يقصد بذلك عباد الله إشاعة الفواحش كما يقصد بذلك أصحاب مجلة الحوادث أو الفواحش، أو الذين يشيعون الفواحش على صفحات الجرائد، فإنهم يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا من أجل أن يتجرأ الناس على معصية الله عز وجل، ويستهينون بمعصية الله عز وجل، ولكن القصص القرآني قصص حق في تاريخ البشرية.
﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ ﴾ [بِالْحَقِّ] [المائدة: 27]؛ أي أن هذا حق ليس كما هو في القصص الدنيوي من نسج الأفكار، ومن خيال الكُتاب، ولكنه قصص واقعي في تاريخ البشرية، يغرس الله عز وجل به المعاني الإيمانية، فكأنه يقصد كيف يفعل المؤمن إذا قصد بشر، وإذا قصد بالقتل، ما يكون جوابه؟ وكيف ينصح أولاً من يريد أن يعتدي عليه، وكيف يقول له: ﴿ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ العَالَمِينَ ﴾ [المائدة: 28]، المؤمن في قلبه من الخوف عباد الله ما يدفعه عن معصية الله عز وجل، وما يدفع به إلى طاعة الله عز وجل.
ثم قال له: ﴿ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ﴾ [المائدة: 29].
أي: أريد أن تتحمل أنت وزر أعمالك وسيئاتك، التي من أجلها لم يتقبل الله عز وجل قربانك، وتبوء أيضًا بإثمي، وكأنه يقول له: ليس لك حسنات حتى آخذها منك إذا كان يوم القيامة، ولكنك سوف تأخذ أيضًا سيئاتي، تبوء بإثم قتلي، أو تبوء بذنوبي؛ لأنه إذا كانت هناك مظلمة فإن المظلوم يأخذ من حسنات الظالم، فإن لم تبق له حسنات طُرِح عليه من سيئاته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أتدرون من المفلس؟)).
قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع.
قال: ((ولكن المفلس من أمتي من يأتي بحسنات كأمثال الجبال، ويأتي وقد قذف هذا، وشتم هذا، وسفك دم هذا، وأخذ مال هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، حتى إذا فنيت حسناته، طرحوا عليه من سيئاتهم ثم طرح في النار))[5].
فكأنه يقول له ويعظه: إنك سوف تتحمل أوزارك وأوزاري يوم القيامة، فكيف تتجرأ على هذا العمل؟ ﴿ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الخَاسِرِينَ ﴾ [المائدة: 30].
طوعت له: أي سهلت له، فالعبد إذا وسوس الشيطان له بمعصية يكون هناك معركة في داخله بين نوازع الخير ونوازع الشر، نوازع الخير تقول له: لا تفعل، تذكر الآخرة، تذكر عقاب الله عز وجل، تذكر الفضيحة على رؤوس الأشهاد، تذكر الفضيحة في الدنيا.
نوازع الشر عباد الله تدفع به إلى المعصية، والشيطان يخفي عنه عواقب المعصية، فينسيه أن بعد المعصية خسرانًا، وبعدها ضنكًا وشقاء، وبعدها عذابًا أليمًا في الآخرة.
تَفْنَى اللَّذَاذَةُ مِمَّنْ نَالَ لَذَّتَهَا
مِنَ الحَرَامِ وَيَبْقَى الإِثْمُ وَالعَارُ
تَبْقَى عَوَاقِبُ سُوءٍ مِنْ مَغَبَّتِهَا
لاَ خَيْرَ فِي لَذَّةٍ مِنْ بَعْدِهَا النَّارُ
|
وقال بعضهم:
وَكَمْ مِنْ مَعَاصٍ نَالَ مِنْهُنَّ لَذَّةً
وَمَاتَ فَخَلاَّهَا وَذَاقَ الدَّوَاهِيَا
تَصَرَّمُ لَذَّاتُ المَعَاصِي وَتَنْقَضِي
وَتَبْقَى تِبَاعَاتُ المَعَاصِي كَمَا هِيَا
فَيَا سَوْءَتَا وَاللَّهُ رَاءٍ وَسَامِعٌ
لَعَبْدٍ بِعَيْنِ اللَّهِ يَغْشَى المَعَاصِيَا
|
فالشيطان يخفي العواقب، لا يتذكر الإنسان عند المعصية عذاب النار، ولا يتذكر الوقوف بين يدي العزيز الجبار؛ لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن))[6].
أي أنه في وقت المعصية يضعف في قلبه الإيمان جدًّا، وقيل: يخرج بالكلية ويكون فوق رأسه، فإن تاب عاد إليه مرة ثانية، وإن أصر لم يعد إليه مرة ثانية، فالشيطان يجعل العبد بإخفاء العواقب وتزيين الشهوات – كالعصفور الذي يرى الحبة في الفخ ولا يرى الفخ، فإذا أراد الحبة يكون ذلك هلاكه وعطبه، وبعد المعصية تبدأ الحسرات، ويبدأ الندم، ويتقطع قلب العبد بعد المعصية بالتوبة، إذا وفِّق إلى التوبة، أو يتقطع عندما تحق الحقائق يوم القيامة، ويرى ثواب الطائعين، وعقاب العاصين، ﴿ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ ﴾ [المائدة: 30]، ما قال: فطوعت له نفسه فقتله؛ بل كرر ذكر أخيه؛ لأن قتل الرجل كبيرة من الكبائر، فكيف إذا قتل أخاه الذي يجب عليه أن يصله؟
((انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا))[7].
كيف يقتل من ينصره، وكيف يقتل من هو له عضد في الدنيا، ومن يقويه في الدنيا؟ ﴿ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [المائدة: 30]؛ أي خسر كل شيء، خسر أخاه، وخسر دينه؛ لأنه تجرأ على هذه الكبيرة، وما نال شيئًا، وإنما دفعه الحسد إلى هذه الكبيرة، فطوعت له نفسه؛ أي سهلت له نفسه، وزينت له نفسه قتل أخيه، ونسي كل العواقب الوخيمة، ونسي عذاب الله عز وجل، ونسي انتقام الله عز وجل، ﴿ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [المائدة: 30].
وهكذا العبد عباد الله بعد المعصية يحس بالخسارة، ويحس بالندم، ويحس كذلك عباد الله بالضنك والشقاء في الدنيا قبل الآخرة.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا.
قوله عز وجل: ﴿ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ * مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ﴾ [المائدة: 30 – 32].
عظم الله عز وجل هذه الجريمة، جريمة القتل، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أعظم محفل شهدته البشرية، وأشرف اجتماع حدث على وجه الأرض، في حجة الوداع، قال: ((إن دماءكم وأعراضكم حرام عليكم؛ كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا))[8].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((كلُّ المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه))[9].
وقال صلى الله عليه وسلم: (( لا يزال المؤمن في فسحة من دينه، ما لم يُصب دمًا حرامًا))[10].
أي مهما وقع في معاصٍ دون القتل فهو في فسحة من دينه، ما لم يصب دمًا حرامًا؛ بل سد النبي صلى الله عليه وسلم الذرائع إلى هذه الجريمة التي هي أكبر الجرائم بعد الكفر بالله عز وجل، ولذلك قال الله عز وجل في وصف عباد الرحمن: ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ﴾ [الفرقان: 68].
فذَكَر بعد الشرك قتل النفس ثم ذكر الزنا، ولذلك كانت عقوبة الردة عن دين الإسلام القتل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَن بدَّل دينه فاقتلوه))[11]، كذلك من قتل يقتل قصاصًا، أو يرضى أولياء المقتول بالدية.
فعظم النبي صلى الله عليه وسلم هذه الجريمة، وسد الذرائع إليها، وقال: ((لا يشيرن أحدكم إلى أخيه بحديدة؛ لعله لا يدري أن ينزغ الشيطان في يده، فيقع في حفرة من النار))[12].
أي لا يفعل ذلك وإن كان مازحًا، يشير إلى أخيه بحديدة أو بقطعة سلاح أو سكين، ولو على سبيل الهزل؛ لعل الشيطان ينزغ في يده فيقع في حفرة من النار، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم من يَحمِل أسهمًا أن يأخذ بنصالها حتى لا تخدش مسلمًا.
كان ابن عباس رضي الله عنهما ينظر إلى الكعبة ويقول: ((إن الله حرَّمكِ وشرَّفك وعظَّمك، والمؤمن أعظم حرمة عند الله منكِ))، فحرمة المؤمن عباد الله أعظم من حرمة الكعبة التي حرمها الله عز وجل وكرمها وشرفها.
﴿ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [المائدة: 30]، كيف تسهل لصاحبها الوقوع في هذه الجريمة الشنيعة، ثم لم يدر كيف يفعل بأخيه، فأكثر المفسرين أخذوا من الإسرائيليات أن غرابين تقاتلا، فقتل أحدهما الآخر فدفنه، فاهتدى ابن آدم إلى سنة الدفن، ولكن الله عز وجل ما أخبر أنه بعث غرابين؛ بل بعث غرابًا.
فالراجح أن هذا الغراب كان يحفر في الأرض يبحث عن شيء، أو يدفن شيئًا، فاهتدى بذلك هذا الرجل إلى سنة الدفن، قال الله عز وجل: ﴿ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ ﴾ [المائدة: 31].
إشارة إلى كثر البحث، فكأنه ظل يحفر حتى حفر حفرة عميقة؛ لأنه ما قال: بحث في الأرض بصيغة الماضي؛ بل قال: يبحث في الأرض، أي: طال البحث حتى حفر حفرة عميقة، فاهتدى هذا الرجل إلى سنة الدفن، فحفر لأخيه حفرة عميقة فدفنه فيها، فأصبح من النادمين.
وهذا كذلك من جزاء المعصية عباد الله؛ لأنه تعلم من الغراب، وأن الغراب صار أستاذه، لأنه بالذنب صار ذليلاً، فكفاه بذلك صغارًا وذلاًّ أنه يتعلم من الغراب: ﴿ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ ﴾ [المائدة: 31].
أي: أحس أن الغراب أشرف منه، وأنه وارى سوءة أخية: ﴿ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ ﴾ [المائدة: 31].
فهذا ما يعقب المعصية عباد الله.
قال عز وجل: ﴿ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ﴾ [المائدة: 32].
قال المفسرون: وإنما عقب الله عز وجل هذه القصة بذكره أن بني إسرائيل كتب الله عز وجل عليهم أن من قتل نفسًا بغير نفس أي بغير استحقاق القتل أو فساد في الأرض؛ فكأنما قتل الناس جميعًا، أي: فإنه يحمل يوم القيامة إثم قتل الناس جميعًا، ﴿ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ﴾ [المائدة: 32].
تعظيم لجريمة القتل، ولكثرة الذنوب التي يتحملها القاتل، وإنما ذكر عز وجل بني إسرائيل، لأنهم الذين يكثر فيهم القتل، فانظروا كيف يفعلون في إخواننا بفلسطين! لا يكاد يمر يوم أو ليلة حتى يقتلوا منهم العشرات، وأحيانًا المئات، فهم عباد الله يتشوقون إلى الدماء، ويكثرون من الدماء، وهم الذين اجترؤوا على قتل نبي الله زكريا، ونبي الله يحيى، وأرادوا قتل عيسى عليه السلام، ولكن رفعه الله عز وجل إليه وما قتلوه يقينًا؛ بل أرادوا قتل نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما سمَّت امرأة سلام بن مشكم اليهودية شاة، وقالت: أي جزء من الشاة أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا لها: الذراع، فسمَّت شاة واستضافت النبي صلى الله عليه وسلم عليها، وأهدتْها للنبي، صلى الله عليه وسلم.
والله تعالى يقول: ﴿ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ [المائدة: 67].
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن هذا الذراع يخبرني أنه مسموم))[13].
كذلك في قصة إجلاء بني النضير، وكيف أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى يهود بني النضير يستعينهم على دية قتيلين للعهد الذي بينهم وبين هذه القبيلة التي منها القتيلان، فقالوا: نعم يا محمد، نجيبك إلى ما سألتنا، وخلا بعضهم إلى بعض وقالوا: لا تجدون الرجل على هذه الحال، مَن منكم يصعد على بيت فلان، فيلقي عليه صخرة عظيمة فيريحنا منه؟ فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي، وحاصرهم حتى أجلاهم عن مدينته.
فكثر عباد الله في بني إسرائيل جريمة القتل: ﴿ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ﴾ [المائدة: 32].
كذلك في هذه القصة عباد الله عقوبة الذين يسنون السنن السيئة، وأهل البدع، والذين يشيعون الفواحش، فيقتدى بهم في ذلك، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تُقتَل نفس ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها))[14].
فالذين يسنون السنن السيئة، والذين يشيعون الفواحش، والذين يبتدعون في دين الله عز وجل، فيتبعهم الناس على ذلك فإنهم يحملون أوزارهم وأوزار من يضلونهم بغير علم، ألا ساء ما يزرون، ((لا تقتل نفس ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها))، فكيف تكون ذنوب هذا الرجل يوم القيامة عباد الله، ما قُتلت نفس في الأرض إلا وتحمل وزرًا في قتلها؛ لأنه أول من سنَّ القتل.
وفي ذلك كذلك عباد الله كيف يدفع الحسد أصحابه، لقد حسد إخوة يوسف يوسف وهموا بقتله، ولكنهم عدلوا عن ذلك فألقوه في غيابة الجب من أجل أن يلتقطه بعض السيارة.
((دب إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، ألا إنها هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين))[15].
اللهم اهدنا فيمن هديت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت.
اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بعز فاجعل عز الإسلام على يديه، ومن أرادنا والإسلام والمسلمين بكيد فكده يا رب العالمين، ورد كيده في نحره، واجعل تدبيره في تدميره، واجعل الدائرة تدور عليه.
اللهم عليك باليهود الغاصبين، والأمريكان الحاقدين، ومن والاهم من المنافقين والعلمانيين، والذين يشيعون الفواحش في بلاد المسلمين.
اللهم أحصهم عددًا، واقتلهم بددًا، ولا تغادر منهم أحدًا، اللهم لا ترفع لهم في الأرض راية، واجعلهم لسائر خلقك عبرة وآية.
اللهم انصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وانصرنا على من بغى علينا.
اللهم ارفع عن بلاد المسلمين الغلا، والوبا، والربا، والزنا، وردهم إليك ردًّا جميلاً.
اللهم هيئ لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا أبدًا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا.
وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليم.
[1] البخاري (30)، ومسلم (8139).
[2] أحمد (1/ 185)، وصححه الألباني في “الإرواء” (8/ 101).
[3] انظر “الإرواء” (8/ 101).
[4] البخاري (2300)، ومسلم (202).
[5] مسلم (4678) بنحوه.
[6] البخاري (2295)، ومسلم (86).
[7] البخاري (2263)، ومسلم (4681).
[8] البخاري (65)، ومسلم (3180).
[9] مسلم (4650).
[10] البخاري (6355).
[11] البخاري (2794) من حديث ابن عباس رضي الله عنه.
[12] البخاري (6545) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[13] أبو داود (4512) بمعناه بإسناد حسن، وصححه الألباني في “صحيح أبي داود”.
[14] البخاري (3088).
[15] الترمذي (2434)، وحسنه الألباني في “الإرواء” (238).
﴿ واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق ﴾
الحمد لله ربِّ العالمين، يَهدي مَن يشاء من عبادِه إلى صراط مُستقيم، نَحمَده على هِدايتِه، ونشْكُره على رعايتِه، وأشهد أن لا إلهَ إلاَّ الله وحْده لا شريكَ له، أنزلَ عليْنا القُرآن، هُدًى لنا وبيِّنات من الهُدى والفرقان، فرغَّبنا ورهَّبنا بالوعد والوعيد، ووعظَنا بقصص السَّابقين، وبيَّن لنا أحْكام الدين، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه، بلَّغ الرِّسالة، وأدَّى الأمانة، ونصَحَ الأمَّة، وجاهدَ في الله – تعالى – حقَّ جهاده، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليْه وعلى آلِه وأصحابِه وأتْباعه إلى يوم الدين.
أمَّا بعد:
فاتَّقوا الله – تعالى – وأطيعوه، واجتهِدوا في الأعمال الصَّالحة، واحْذروا الموبقات والمحقّرات؛ فإنَّ هول المطلع شديد، وإنَّ الحساب عسير، ولا نَجاةَ إلاَّ بالإيمان والتَّقوى؛ ﴿ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [الزُّمر: 61].
أيُّها النَّاس:
كتاب الله – تعالى – فيه نبَأ ما قبلَنا، وخبرُ ما بعدنا، وحُكم ما بيننا، رسَّخ الله تعالى فيه التَّوحيد والاعتقاد، وفصَّل لنا الحلال والحرام، وعلَّمنا القصص والأخْبار، فهو الهداية الجامعة، والنِّعْمة التَّامَّة، ومَن أضلُّ مِمَّن أعرض عنه، أو استبْدَلَ به غيره، فرضِي بالدُّون عن الَّذي هو خير؟!
وللقصَّة أثرٌ كبير في النَّفس البشريَّة، وهي سببٌ من أسْباب الهداية، بِمعرفة الخير لإتْيانه، والعلْم بالشَّرّ لاجتنابه؛ ولذا كثرت القصص في القرآن، وأُمر النبي – صلَّى الله عليْه وسلَّم – أن يقصَّها عليْنا: ﴿ فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 176]، وهي قصص حقّ وصِدْق وعبرة كما أخبرنا الله – تعالى – بذلك، وهو أصدق القائلين: ﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ القَصَصُ الحَقُّ ﴾ [آل عمران: 62].
وافتُتحت قصَّة يوسف – عليْه السَّلام – بقول الله تعالى: ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَصِ ﴾ [يوسف: 3]، وخُتمت بقوله – سبحانه -: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الأَلْبَابِ ﴾ [يوسف: 111].
فواجبٌ على قُرَّاء القرآن أن يُوقنوا أنَّها قصص واقعة، فيَستفيدوا من أحداثها، ويعتبروا بمواعظها.
وفي قصَّة من أعجب قصص القُرآن ومن أكثرها عظات وعبرًا، نعيش هذه اللَّحظات المباركة في هذه العبادة العظيمة.
هذه القصَّة قد تكون هي أوَّل قصص بني آدم على الأرض، وذكَر المفسِّرون أنَّ أحد طرفيْها هو أوَّل آدمي يَموت في الأرض قبل موت آدم – عليه السلام – أُمر النَّبي – صلَّى الله عليْه وسلَّم – أن يقصَّها علينا بقول الله تعالى: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالحَقِّ ﴾ [المائدة: 27]؛ فالله – تعالى – يُخبرنا بالحقِّ في هذه القصَّة بعيدًا عن ترَّهات بني إسرائيل وتخبُّطاتهم في ذكر القصص وتفصيلاتها عامَّة، وفي ذكر هذه القصَّة خاصَّة.
هذان الابنان لآدم – عليْه السَّلام – بذلا شيئًا لله تعالى لا يُعلم ما هو، ولا سبب بذْله، لكن المفيد أنَّ أحدَهما قد قَبِلَ الله تعالى قُربتَه، والآخر رُدَّت عليه قُربتُه؛ ﴿ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآَخَرِ ﴾ [المائدة: 27].
فحسد المردودُ منهما المقبولَ على ما آتاه الله تعالى من القَبول الذي حُرم هو منْه، وقد قيل: إنَّ الحسد هو أوَّل ذنبٍ عُصِي الله – تعالى – به في الأرض؛ استنادًا إلى هذه القصَّة العظيمة، كما أنَّ الحسد هو أوَّل ذنب عُصِي الله – تعالى – به في السَّماء؛ استنادًا إلى قصَّة آدم المرحوم مع إبليس الملعون.
وأثمر حسد ابن آدم لأخيه تهديده بالقتْل؛ ﴿ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ﴾ [المائدة: 27]، وكَم في المقابر من قتيلِ حسد، سواء قتله مباشرة أو بِسُمٍّ أو بِسحرٍ أو بعين، وهذا يبيِّن خطورة الحسد؛ إذْ بسبَبه يفسد القلْب، ويَضيق الصَّدر، ويُظلم الوجه، فيثمر كبائر الذُّنوب والموبقات من الغيبة والنَّميمة والبهتان والكذِب، والافتراء لإسقاط المحسود، وقد يصِل بصاحبه إلى القتل إن قدر على ذلك.
ولا يردُّ الحاسدَ عن قتل المحسود إلاَّ العجْز، وإلاَّ فإنَّه إذا قدر عليْه قتله في الغالب؛ لشدَّة ما يَجد في قلبِه من نار الحسَد الَّتي لا تُطفأ إلاَّ بدم المحسود، نعوذ بالله تعالى من ظُلْمة القلوب، وضيق الصدور، ومن شرِّ الحسد وأهله.
وقابلَه أخوه المحسود بالحسنى، فبيَّن له أنَّ القبول والرَّدَّ من الله – تعالى – وليس منه، ولا ذنب له في عدم قبول قرْبانه، وأنَّ سبب القبول هو صلاح القلب بالتقوى؛ ﴿ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ ﴾ [المائدة: 27]، ثمَّ أعْلَمَه أنَّه لن يقابل تَهديده بمثله؛ ﴿ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ ﴾ [المائدة: 28]، فهذا الرَّدّ اللَّيِّن منه فيه امتِصاص لسوْرة غضبه، وتخفيف لحقْدِه وحسده، ثمَّ ذكَّره بالخوف من الله تعالى؛ لعلَّ ذلك يَمنعه من تنفيذ تهديدِه، وبالغ في تخويفه فذكَّره بالإثم والنار؛ ﴿ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ﴾ [المائدة: 29]، وأراد بِجمع الإثمين على أخيه بأنَّه لو قابل هو فِعْل أخيه بمثله لتحمَّل كلُّ واحد منهما جزءًا من الإثْم، ولكنَّه يكفُّ يدَه عن أخيه ليتحمَّل أخوه كلا الإثْمين؛ كما في حديث أبي بَكْرَةَ – رضِي الله عنْه – قال: سمعْت رَسُولَ الله – صلَّى الله عليْه وسلَّم – يقول: ((إذا الْتَقَى المُسْلِمانِ بِسَيْفَيْهِما فالقَاتِلُ والمَقْتُولُ في النَّارِ))، فقلت: يا رَسُولَ الله، هذا القاتِلُ، فما بَالُ المَقْتولِ؟ قال: ((إنَّه كان حَرِيصًا على قَتْلِ صَاحِبِه))؛ رواه الشَّيخان.
ورضي الله – تعالى – عن عُثمان بن عفَّان وأرْضاه، فقد عَمِل بهذه الآية مع شدَّتها ومشقَّة العمل بها، فكفَّ يده، وأمر بالكفِّ عمَّن خرجوا عليْه حتَّى قتلوه، قال أيوب السخْتياني – رحِمه الله تعالى -: “إنَّ أوَّلَ مَن أخذ بهذه الآية من هذه الأمَّة لعثمان بن عفَّان – رضي الله عنه”.
ودخل أبو هُريرة – رضِي الله عنه – لينصُر عثمان يوم حُصِر في الدار، قال أبو هريرة: فقال لي عثمان: “يا أبا هُريرة، أيسرُّك أن تقتل النَّاس جميعًا وإياي معهم؟” فقلت: لا، فقال: “والله لئن قتلت رَجُلاًَ واحدًا لكأنَّما قتلت النَّاس جميعًا”، فرجعتُ فلم أقاتل.
إنَّ الخوف من عذاب الآخِرة يَحجز المؤمن عن الدِّماء المعصومة، فيفضّل أن يقتل مظلومًا على أن يتلطَّخ بدم مسلم، لكنَّ ضعيفي الإيمان تدْفعُهم شياطينُهم لمقارفة الآثام، والولوغ في الدِّماء، فلا يفارقهم غيُّهم، ولا ترْدعهم آيات التَّخويف، وينسوْن القصاص في الآخرة، كما حصل لابن آدم حين غلبتْ عليه نفسُه الأمَّارة بالسوء، ودفعه شيْطانُه لقتل أخيه؛ ﴿ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الخَاسِرِينَ ﴾ [المائدة: 30]، لقد خسِر أخاه حين قتله، والأخُ للأخ عضد وأنيس ونصير، ووقَع في عقوق والديْه بقتْل ابنِهما، وخسِر المتعة بحياته؛ لأنَّ النَّدم سيُطارده، وخسِر سُمعتَه؛ لأنَّ البشر يتناقلون خبرَه السيِّئ مع أخيه منذ ذلك الوقت إلى آخر الزَّمان، مع خسارته الكبرى لدينِه وآخرته بهذا الفعل الشَّنيع.
وممَّا يدلُّ على أنَّ هذه الحادثة وقعت في عهد آدم – عليه السَّلام – وأنَّ المقتول كان أوَّلَ ميت في البشَر: أنَّ أخاه لم يعرف ماذا يفعل بجثَّته، حتَّى ضرب الله تعالى له مثلاً من الطير؛ ﴿ فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ﴾ [المائدة: 31].
يا لعظمة القُرآن حين يَحكي الله تعالى فيه جبروتَ ابنِ آدم وقوَّته في سفْكِ دم أخيه، ثمَّ إذلالِه بالعجْز عن مواراة جثَّته.
إنَّ كلَّ قاتل له خطَّة في القتل تدلُّ على إعمال عقله، وله جسارة قلب تُمكنه من الإقدام على القتل، وله قوَّة جسديَّة يستطيع بها مباشرة القتل، ولكن ابن آدم عقب قتلِه لأخيه مكث حائرًا عاجزًا لا يدْري ما يصنع بجثَّته، إنَّه ضعف الأقوِياء، وعجْز الجبابرة، وذلّ المتكبرين، أبَى الله – تعالى – إلاَّ أن يذوقَه في الدنيا جزاء اجترائِه على معصِيَته، وانتهاك حرمته.
وعلماء الحيوان يذْكرون أنَّ الغراب أذْكى الطيور، وأنَّ لدى الغربان عقوبات توقعها على مَن يستحقُّها من أفرادها، فإذا حكموا بموت غراب نقروه حتَّى الموت، ثمَّ يَحمله بعضُهم فيحفر له بمنقاره وقدمَيه حتَّى يواريه التُّراب.
فكان من إذْلال الله – تعالى – العاجل لقاتل أَخيه عجْزه عن مواراة أخيه مع كمال عقْله، وتوافُر قدرته؛ ليسخر سبحانه له طيرًا لا يعقل فيعلمه كيفية الدفن.
وهذا النَّدم الذي لحق القاتل بعد جريمتِه هو ندم العاجزين وليس ندم التَّائبين؛ إذْ لو تاب لتاب الله تعالى عليه، ولكنَّه ظلَّ على كبريائه مع عجْزه، فعوقب بالنَّدم والعجْز والإذْلال في الدُّنيا، وعذابُ الآخرة أشدُّ وأبقى.
ويكون الحكم الشَّرعي المستفاد من هذه القصَّة العظيمة: أنَّ مَن استحلَّ قتْل شخص ظلمًا وعدْوانًا فكأنَّه قد استحلَّ قتْل النَّاس جميعًا، ومَن تسبَّب في إحياء نفسٍ فكأنَّه أحْيا النَّاس جميعًا، كما أنَّ من اجترأ على القتل أوَّل مرَّة سهل عليه بعد ذلك حتى يألفه؛ ولذا فإنَّ من اعتادوا على قتْل الناس ظلمًا وعدوانًا هم من يسعرون الحروب في البشر، ويهلكون الحرْثَ والنَّسل؛ ﴿ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ﴾ [المائدة: 32].
بارك الله لي ولكم…
الخطبة الثانية
الحمدُ لله حمدًا طيِّبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحبُّ ربُّنا ويرضى، وأشهد أن لا إلهَ إلاَّ الله وحْده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليْه وعلى آله وأصْحابه، ومَن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أمَّا بعد:
فاتَّقوا الله تعالى وأطيعوه، ﴿ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 223].
أيُّها المسلمون:
فيما قصَّ الله – تعالى – من خبَر ابنَي آدم – عليه السَّلام – تظْهر قيمة التقوى؛ فأمرها عظيم، وشأْنُها كبير، وهي سبب كلِّ خير، وفي هذه القصَّة حُصر قبول العمل فيها؛ ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقِينَ ﴾ [المائدة: 27].
إنَّ هذه الآية العظيمة لم تمرَّ على سلفِنا الصَّالح حتَّى تدبَّروها، وعلموا قيمة التَّقوى، وارتباطها بقبول العمل فتمثَّلوها، وسعَوا في تحصيلها، قال عَلِيٌّ – رَضِيَ الله عَنْهُ -: “لا يَقِلُّ عَمَلٌ مَعَ تَقْوى، وكيْفَ يَقِلُّ ما يُتَقَبَّلُ؟!”.
وقال أبو الدرداء – رضي الله عنه -: “لأن أستيقِن أنَّ الله تقبَّل منِّي صلاة واحدة أحبُّ إليَّ من الدنيا وما فيها، إنَّ الله يقول: ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ ﴾”.
وبكى عامر بن عبدالله عند الموت، فقيل له: “ما يبكيك؟ قال: آية في كتاب الله، فقيل له: أي آية؟ قال: ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقِينَ ﴾.
فما أكبر شأن التقوى! وما أعظم أثرَها في قبول الأعمال! فهذه أوَّل منازلة بشريَّة في الأرض بين الحقِّ والباطل انتصر فيها صاحب الحقِّ بتقْواه، فتُقُبِّل منه عمله، وبتقْواه كفَّ يده عن أذيَّة أخيه ففاز بالذِّكْر الحسن في الدنيا، وبِجزيل الثَّواب في الآخرة، وبهذا نُدرك أنَّ من أهمِّ أسباب هزيمة الأمَّة ضعف التَّقوى في قلوب أفْرادها، ولو كانوا متَّقين لانتصروا.
وملحظ عجيب في هذه القصَّة العظيمة ينبغي أن لا يفوت على قارئها، وهو أنَّ الله – تعالى – ذيَّل هذه القصَّة بقوله سبحانه: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]، ومعلوم أنَّ القتل ممَّا أجْمعت الشَّرائع على تحريمه من لدن آدم – عليه السلام – وبين آدم – عليه السلام – وبني إسرائيل قرون طويلة، وأُمم كثيرة، وأنبِياء متتابعون، فلماذا يُذكر بنو إسرائيل في كتابة تَحريم القتل عليهم، والتَّشديد فيه، مع أنَّهم من أواخِر الأمم البشريَّة، وكان القتل محرَّمًا قبل وجودهم؟
إنَّ هذا – والعلم عند الله تعالى – يرْجِع إلى سببين مهمَّين:
أوَّلُهما: أنَّ أوَّل كتاب تنزَّلت فيه الأحكام مكتوبة هو التَّوراة، فنزل فيها تحريم القتْل، والتَّشديد فيه، والتَّأكيد عليه.
والسَّبب الثاني – وهو الأهم -: أنَّ بني إسرائيل يستَرْخِصون النُّفوس البشريَّة، ولا يأْبَهون بقتل النَّاس، ويستلذُّون بسفك الدِّماء، ونصوصهم الَّتي حرَّفوها واخترعوها في كتُبهم تدلُّ على ذلك، كما يدلُّ عليه تاريخهم الماضي، وواقعهم المعاصر؛ فهم قتلة الأنبياء بنصّ القرآن، والأُمم المكذِّبة كانوا يتهيَّبون قتل الأنبياء – وإن عارضوهم – إلاَّ أمَّة بني إسرائيل فكانوا يفاخرون بقتْلهم لرسلهم، وحاولوا قتل آخر أنبِيائهم عيسى – عليه السلام – لولا أنَّ الله تعالى نجاه منهم، ورفعه إليه.
ومَن اجترؤوا على قتْل الأنبياء فهم على غيرهم أجرأ، وتاريخ بني إسرائيل حافل بالمذابح البشريَّة الفرديَّة والجماعيَّة، والحضارة المعاصرة هي حضارتهم؛ لأنَّ اليهود والنَّصارى هم ربانها، وهم من ذرّيَّة نبي الله إسرائيل – عليه السلام – وأكبر ما نُقل من القتل عبر تاريخ البشريَّة الطويل إنَّما كان في حضارتنا المعاصرة، حتَّى لو قيل: إنَّ ما سفك من دماء البشَر خلال مائة سنة خلتْ أكثر ممَّا سُفِك قبلها في تاريخ البشريَّة كلّها لما كان ذلك بعيدًا، ويَكفي في ذلك الحربان الكونيتان الكبيرتان، والحروب الاستِعْمارية التي أُفنيت فيها شعوب بأكملها، ولا زال سفكهم لدماء غيرهم مستمرًّا إلى يومنا هذا، فما أعظم القرآن حين يأْتي النَّصُّ فيه بتحريم القتل على أمَّة بني إسرائيل عقب حكاية قصَّة أوَّل قتل وقع في البشر، ثمَّ نقرأ التاريخ، ونرى الواقع ، فلا يعدو ما جاء في القرآن من استِرْخاص بني إسرائيل لدماء البشر؛ ﴿ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ﴾ [المائدة: 32].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.