تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة

تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة
تحويل القبلة

وحولت القبلة في شهر رجب من السنة المذكورة التي هي الثانية في نصفه، وقيل في نصف شعبان. قال بعضهم: وعليه الجمهور الأعظم، وقيل كان في جمادي الآخرة، أي فقد قيل «إنه في المدينة إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا، وقيل سبعة عشر شهرا وقيل أربعة عشر شهرا، وقيل غير ذلك، وتقدم أنه صلى في مسجده بعد تمامه إلى بيت المقدس خمسة أشهر».

 

والأكثرون على أن تحويلها كان في صلاة الظهر، وقيل العصر، أي ففي الصحيحين عن البراء «إن أول صلاة صلاها رسول الله ﷺ أي للكعبة صلاة العصر».

 

وقد يقال: لا منافاة لجواز أن يكون المراد أول صلاة صلاها كلها للكعبة صلاة العصر، لأن الظهر صلى نصفها الأول لبيت المقدس ونصفها الثاني للكعبة: ثم رأيت الحافظ ابن حجر فعل كذلك، حيث قال: التحقيق أن أول صلاة صلاها بالمسجد النبوي صلاة العصر، أو أن التحويل في العصر كان في محل آخر للأنصار أي وهم بنو حارثة. وقيل حولت في صلاة الصبح وهو محمول على أن ذلك كان في قباء، لأن الخبر لم يبلغهم إلا حينئذ كما سيأتي، وإنما حولت لأنه كان يعجبه أن تكون قبلته الكعبة سيما لما بلغه أن اليهود قالوا يخالفنا محمد ويتبع قبلتنا. أي وفي لفظ: قالوا للمسلمين: لو لم نكن على هدى ما صليتم لقبلتنا فاقتديتم بنا فيها.

 

وفي لفظ «كان يحب أن يستقبل الكعبة محبة لموافقة إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام وكراهة لموافقة اليهود، ولقول كفار قريش للمسلمين لم تقولون نحن على ملة إبراهيم وأنتم تتركون قبلته وتصلون إلى قبلة اليهود؟ أي ولأنه لما هاجر صار إذا استقبل صخرة بيت المقدس يستدبر الكعبة، فشق ذلك عليه، فقال لجبريل: وددت أن الله سبحانه وتعالى صرفني عن قبلة اليهود، فقال جبريل: إنما أنا عبد لا أملك لك شيئا إلا ما أمرت به، فادع الله تعالى، فكان رسول الله ﷺ يدعو الله تعالى، يكثر إذا صلى إلى بيت المقدس من النظر إلى السماء ينتظر أمر الله تعالى» أي لأن السماء قبلة الدعاء، وفي رواية، أن رسول الله ﷺ قال لجبريل: وددت أنك سألت الله تعالى أن يصرفني إلى الكعبة، فقال جبريل: لست أستطيع أن أبتدىء الله جل وعز بالمسألة، ولكن إن سألني أخبرته، وخرج رسول الله ﷺ زائرا أمّ بشر بن البراء بن معرور في بني سلمة فصنعت له طعاما، وحانت صلاة الظهر فصلى رسول الله ﷺ بأصحابه في مسجد هناك، فلما صلى ركعتين نزل جبريل فأشار إليه أن صلّ إلى الكعبة واستقبل الميزاب، فاستدار رسول الله ﷺ إلى الكعبة، أي فاستدار النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء» أي فقد تحول من مقدم المسجد إلى مؤخره، لأن من استقبل الكعبة في المدينة يلزم أن يستدبر بيت المقدس أي كما أن من يستقبل بيت المقدس يستدبر الكعبة، وهو لو دار كما هو مكانه لم يكن خلفه مكان يسع الصفوف. قيل وكان ذلك وهم راكعون، وفيه أن هذا يستدعى عملا كثيرا في الصلاة وهو مفسد لها عندنا إذا توالى.

 

وقد يقال: لا مانع لجواز أن يكون ذلك قبل تحريم العمل الكثير في الصلاة، أو أن هذا العمل لم يكن على التوالي.

أقول: وبدخوله أي على أم بشر وعلى الربيع بنت معوذ ابن عفراء، وعلى أم حرام بنت ملحان، وعلى أختها أم سليم، والخلوة بكل منهن، فقد كانت أم حرام بنت ملحان تفلي رأسه الشريفة وينام عندها، استدل أن من خصائصه جواز النظر إلى الأجنبية والخلوة بها لأمنه الفتنة كما سيأتي، والله أعلم.

 

وسمي ذلك المسجد مسجد القبلتين، وقيل كانت تلك الصلاة التي هي صلاة الظهر التي وقع التحول فيها في مسجده، فخرج عباد بن بشر وكان صلى مع رسول الله ﷺ ومرّ على قوم من الأنصار يصلون العصر وهم راكعون فقال: أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله ﷺ قبل البيت يعني الكعبة ثم بلغ أهل قباء ذلك وهم في صلاة الصبح في اليوم الثاني أي وهم ركوع، وقد ركعوا ركعة فنادى مناد: ألا إن القبلة قد حولت إلى الكعبة، فتحولوا إليها.

أي وفي البخاري «بينا الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت، فقال: إن رسول الله ﷺ قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، فاستداروا إلى الكعبة، وفي مسلم بدل صلاة الصبح صلاة الغداة. قال الحافظ ابن حجر: وهو أحد أسمائها.

 

وقد نقل بعضهم كراهة تسميتها بذلك، ولم ينقل أنهم أمروا بقضاء العصر والمغرب والعشاء، ولا إعادة الركعة التي صلوها من الصبح، وهو دليل على أن الناسخ لا يلزم حكمه إلا بعد العلم به وإن تقدم نزوله. وعلى أنه يجوز ترك الأمر المقطوع به، وهو استقبال بيت المقدس إلى أمر مظنون وهو خبر الواحد.

 

وأجيب عن هذا الثاني بأن الخبر المذكور احتفت به قرائن أفادت القطع عندهم بصدق المخبر، فلم يتركوا الأمر المعلوم إلا لأمر معلوم أيضا. على أنه يجوز نسخ المتواتر بالآحاد، لأن محل النسخ الحكم، ودلالة المتواتر عليه ظنية كما تقرر في محله. ويقال إن المبلغ لهم عباد ابن بشر أيضا فيكون عباد أتى بني حارثة أولا في صلاة العصر ثم توجه إلى أهل قباء فأعلمهم بذلك في وقت الصبح، والقرآن الذي نزل قوله تعالى {قد نرى تقلب وجهك في السماء} الآيات أي وإلى هذا يشير بعضهم بقوله:

كم للنبي المصطفى من آية ** غراء حار الفكر في معناها

لما رأى الباري تقلب وجهه ** ولاه أيمن قبلة يرضاها

 

وعن عمارة بن أوس الأنصاري، قال: صلينا إحدى صلاتي العشى أي وهما الظهر والعصر، فقام الرجل على باب المسجد ونحن في الصلاة، فنادى: إن الصلاة قد وجهت نحو الكعبة فتحول إمامنا نحو الكعبة وقوله تعالى {قد نرى تقلب وجهك في السماء} أي متطلعا نحو الوحي ومتشوقا للأمر باستقبال الكعبة {فلنولينك} أي نحولنك {قبلة ترضاها} أي تحبها {فولّ وجهك شطر المسجد الحرام} أي نحوه، والمراد بالمسجد الحرام الكعبة {وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق} أي الرجوع إلى الكعبة {من ربهم} أي لما في كتبهم من نعته بأنه يتحول إلى الكعبة.

 

أقول: ولعل هذه القصة التي رواها عمارة هي التي رويت عن رافع بن خديج، قال «أتانا آت ونحن نصلي في بني عبد الأشهل، فقال إن رسول الله ﷺ قد أمر أن يتوجه إلى الكعبة فدار أمامنا إلى الكعبة ودرنا معه» والله أعلم.

«واجتمع قوم من كبار اليهود جاؤوا إليه وقالوا له: يا محمد ما ولاك عن قبلتك التي كنت عليها وأنت تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه أي وما كنت عليه قبلة إبراهيم» وهذا بناء على دعواهم أن بيت المقدس كان قبلة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كما سيأتي عنهم، وسيأتي ما فيه ثم قالوا ارجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتبعك ونصدقك «وإنما يريدون بذلك فتنتة ليعلم الناس أنه في حيرة من أمره» أي واختبارا لما يجدونه في نعته من أنه يرجع عن استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة وأنه لا يرجع عن تلك القبلة، وفي رواية أنهم قالوا للمسلمين: ما صرفكم عن قبلة موسى ويعقوب وقبلة الأنبياء» أي ويوافقه قول الزهري «لم يبعث الله منذ هبط آدم عليه الصلاة والسلام إلى الأرض نبيا إلا جعل قبلته صخرة بيت المقدس» ويوافق هذا ظاهر قول الإمام السبكي رحمه الله تعالى في تائيته

وصليت نحو القبلتين تفردا ** وكل نبيّ ما له غير قبلة

قال شارحها: يشير إلى أن كل نبي كانت قبلته بيت المقدس، وهو قد شاركهم فيها، أي واختص بالكعبة.

ومن ثم جاء في التوراة في وصفه «صاحب القبلتين» وفيه أن قبلة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم إنما هي الكعبة. فعن أبي العالية. كانت الكعبة قبلة الأنبياء، وكان موسى يصلي إلى صخرة بيت المقدس، وهي بينه بين الكعبة، ومثل هذا لا يقال إلا عن توقيف، أي ويقال بمثل هذا فيما تقدم عن اليهود وعن الزهري، على تسليم صحته أن صخرة بيت المقدس كانت قبلة لجميع الأنبياء أنهم كانوا يصلون إليها ويجعلونها بينهم وبين الكعبة، فلا مخالفة.

لا يقال: هذا ليس أولى من العكس، أي أن استقبال الأنبياء للكعبة إنما كانوا يجعلونها بينهم وبين صخرة بيت المقدس. لأنا نقول: قد ذكر في الأصل في تفسير قوله تعالى {ليكتمون الحق وهم يعلمون الحق من ربك} أي يكتمون ما علموا من أن الكعبة هي قبلة الأنبياء، أي المقصودة بالاستقبال، لا أنهم يستقبلونها لأجل صخرة بيت المقدس.

 

وذكر عن بعضهم أن اليهود لم تجد كون الصخرة قبلة في التوراة، وإنما كان تابوت السكينة على الصخرة، فلما غضب الله على بني إسرائيل رفعه فصلوا إلى الصخرة بمشاورة منهم، أي وادعوا أنها قبلة الأنبياء ـ وما تقدم عن الزهري تقدم الجواب عنه ـ ثم قالوا والله إن أنتم إلا قوم تفتنون، فأنزل الله تعالى {سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب} أي الجهات كلها فيأمر بالتوجه إلى أيّ جهة شاء لا اعتراض عليه {يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} أي فكان أوّل ما نسخ أمر القبلة.

فعن ابن عباس أول ما نسخ من القرآن فيما يذكر لنا والله أعلم شأن القبلة فاستقبل بيت المقدس ـ أي بمكة والمدينة ـ ثم صرفه الله تعالى إلى الكعبة.

 

أي وأما قوله تعالى {فأينما تولوا فثم وجه الله} فمحمول على النفل في السفر إذا صلى حيث توجه.

وما قيل إن سبب نزولها ما ذكره بعض الصحابة، قال «كنا في سفر ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة، فصلى كل منا على حياله، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك لرسول الله ﷺ فنزلت» ففيه نظر لضعف الحديث؛ أو هو محمول على ما إذا صلوا باجتهاد.

 

أي ولما توجه إلى الكعبة، قال المشركون من أهل مكة توجه محمد بقبلته إليكم، وعلم أنكم كنتم أهدى منه، ويوشك أي يقرب أن يدخل في دينكم ومن ثم ارتد جماعة وقالوا مرة ها هنا ومرة ها هنا.

 

«ولما حوّلت القبلة إلى الكعبة أتى رسول الله ﷺ مسجد قباء فقدم جدار المسجد موضعه الآن، وقالت الصحابة له؛ يا رسول الله لقد ذهب منا قوم قبل التحول، فهل يقبل منا ومنهم؟ فأنزل الله تعالى قوله {وما كان الله ليضيع إيمانكم} أي صلاتكم إلى بيت المقدس». وذكر في الأصل «أن الصحابة قالوا: مات قبل أن تحول قبل البيت رجال وقتلوا، أي وهم عشرون، ثمانية عشر من أهل مكة، واثنان من الأنصار وهما البراء بن معرور، وأسعد بن زرارة فلم ندر ما نقول فيهم؛ فأنزل الله تعالى {وما كان الله ليضيع إيمانكم} الآية» ولفظة القتل وقعت في البخاري.

 

وأنكرها الحافظ ابن حجر فقال: ذكر القتل لم أره إلا في رواية زهير، وباقي الروايات إنما فيها ذكر الموت فقط، ولم أجد في شيء من الأخبار أن أحدا من المسلمين قتل قبل تحويل القبلة، لكن لا يلزم من عدم الذكر عدم الوقوع، فإن كانت هذه اللفظة محفوظة فتحمل على أن بعض المسلمين ممن لم يشتهر، قتل في تلك المدة في غير الجهاد.

ثم قال: وذكر لي بعض الفضلاء أنه يجوز أن يراد من قتل بمكة من المستضعفين كأبوي عمار، فقلت: يحتاج إلى ثبوت أن قتلهما كان بعد الإسراء، هذا كلام الحافظ وفيه أن الركعتين اللتين كان يصليهما وهو والمسلمون بالغداة وبالعشي قبل فرض الصلوات الخمس كانتا لبيت المقدس، فقد تقدم أنه كان يصلي هو وأصحابه إلى الكعبة ووجوههم إلى بيت المقدس، فكانوا يصلون بين الركنين اليماني والذي عليه الحجر الأسود لأجل استقبال بيت المقدس، وتقدم أنه لم يتلزم ذلك بل كان في بعض الأوقات يصلي إلى الكعبة في أي جهة أراد.

ثم لما قدم المدينة صار يستقبل بيت المقدس ويستدبر الكعبة إلى وقت التحويل، ومن ثم قال في الأصل «ولما كان يتحرى القبلتين جميعا أي يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس لم يتبين توجهه إلى بيت المقدس للناس حتى خرج من مكة» أي فإنه استدبر الكعبة واستقبل بيت المقدس.

فقول ابن عباس؛ لما هاجر رسول الله ﷺ إلى المدينة، واليهود يستقبلون بيت المقدس، أمره الله تعالى أن يستقبل بيت المقدس، معناه أمره الله تعالى أن يستمر على استقبال بيت المقدس، وهذا هو المراد بقوله الذي نقله بعضهم عنه، وهو أنه وأصحابه كانوا يصلون بمكة إلى الكعبة، فلما هاجروا أمره الله تعالى أن يصلي نحو صخرة بيت المقدس، أي يستمر على ذلك ويستدبر الكعبة، ثم أمره الله باستقبال الكعبة واستدبار بيت المقدس؛ فلم يقع النسخ مرتين كما قد يفهم من ظاهر السياق ومن قول ابن جرير أول ما صلى إلى الكعبة، ثم صرف إلى بيت المقدس وهو بمكة، فصلى صلاة ثلاث حجج، ثم هاجر فصلى إليه، ثم وجهه الله تعالى إلى الكعبة» هذا كلامه، ومن ثم قال الحافظ ابن حجر: هذا ضعيف، ويلزم منه دعوى النسخ مرتين. قيل وكان أمره بمداومة استقبال بيت المقدس ليتألف أهل الكتاب لأنه كان ابتداء الأمر يحب أن يتألف أهل الكتاب فيما لم ينه عنه، فلا يخالف ما سبق من أنه كان يحب أن يستقبل الكعبة كراهة لموافقة اليهود في استقبال بيت المقدس ولا يخالف هذا قول بعضهم، كان قبل فتح مكة يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم ينه عنه، وبعد الفتح يحب مخالفتهم، لجواز أن يكون ذلك أغلب أحواله.

وقد يؤخذ من استدامة استقباله لبيت المقدس كان لتألف أهل الكتاب، جواب عما يقال إذا كانت الكعبة قبلة الأنبياء كلهم، فلم وفق إلى استقبال بيت المقدس وهو بمكة؟ بناء على أن صلاته لبيت المقدس وهو بمكة كانت باجتهاد.

وحاصل الجواب أنه أمر بذلك أو وفق إليه، لأنه سيصير إلى قوم قبلتهم بيت المقدس، ففيه تأليف لهم، وقد يوافقه ما في الأصل عن محمد بن كعب القرظي قال: ما خالف نبي نبيا قط في قبلة إلا أن رسول الله ﷺ استقبل بيت المقدس، أي فهو مخالف لغيره من الأنبياء في ذلك، وهذا موافق لما تقدم عن أبي العالية: كانت الكعبة قبلة الأنبياء: أي ثم في السنة المذكورة التي هي الثانية فرض صوم رمضان، وفرضت زكاة الفطر، وطلبت الأضحية، أي استحبابا.

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه» فرض شهر رمضان بعد ما صرفت القبلة إلى الكعبة بشهر في شعبان، أي على ما تقدم «وكان يصوم هو وأصحابه قبل فرض رمضان ثلاثة أيام من كل شهر، أي وهي الأيام البيض وهي الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر» قيل وجوبا.

فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «كان رسول الله ﷺ لا يفطر الأيام البيض في حضر ولا سفر، وكان يحث على صيامها».

وقيل: كان الواجب عليه قبل فرض رمضان صوم عاشوراء، ثم نسخ ذلك بوجوب رمضان.

وعاشوراء هو اليوم العاشر من شهر الله المحرم: ففي البخاري، ثم عن ابن عمر رضي الله عنهما «صام النبي ﷺ عاشوراء، فلما فرض رمضان ترك صوم عاشوراء، هذا والمشهور من مذهبنا معاشر الشافعية أنه لم يجب على هذه الأمة صوم قبل رمضان.

وحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لا دلالة فيه على الوجوب، لجواز أن يكون شأنه صيام تلك الأيام على الوجه المذكور حتى بعد فرض رمضان. وحديث البخاري أيضا لا دلالة فيه، لجواز أن يكون تركه لصوم يوم عاشوراء في بعض الأحايين، بعد فرض رمضان خشية اعتقاد وجوب صومه كرمضان.

ويجاب بمثل ذلك عما في الترمذي، عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت «كان عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله ﷺ يصومه موافقة لهم» أي ولم يأمر أحد من أصحابه بصيامه، فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان كان رمضان هو الفريضة وترك عاشوراء، فمن شاء صامه، ومن شاء تركه «أي ترك صومه خوفا من توهم أنه فرض كرمضان، وقولها رضي الله تعالى عنها فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه» أي لأنه حين قدم المدينة: أي في أيام قدومه للمدينة، وذلك في شهر ربيع الأول وجد اليهود تصومه وتعظمه، فسألهم عن ذلك، فقالوا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرا فنحن نصومه، فقال رسول الله «نحن أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه» كما جاء ذلك عن ابن عباس رضي تعالى عنهما.

وفي كلام الحافظ ناصر الدين عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن رسول الله ﷺ قدم المدينة يوم عاشوراء، فإذا اليهود صيام، فقال رسول الله ﷺ ما هذا؟ قالوا: هذا يوم أغرق الله تعالى فيه فرعون وأنجى فيه موسى، فقال رسول الله ﷺ أنا أولى بموسى، فأمر رسول الله ﷺ بصومه» هذا حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم.

والمدينة يحتمل أن المراد بها قباء، ويحتمل أن المراد بها باطنها، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما» فلما فرض رمضان قال أي لأصحابه، من شاء صامه ومن شاء تركه، أي قال ذلك لهم خشية اعتقادهم وجوب صومه كوجوب صوم رمضان.

وفي كونه وجدهم صائمين لذلك اليوم إشكال، لأن يوم عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر الله المحرم كما تقدم، أو هو اليوم

التاسع من كما يقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فكيف يكون في ربيع الأول.

وأجيب بأن السنة عند اليهود شمسية لا قمرية، فيوم عاشوراء الذي كان عاشر المحرم واتفق فيه غرق فرعون لا يتقيد بكونه عاشر المحرم، بل اتفق في ذلك الزمن: أي زمن قدومه وجود ذلك اليوم بدليل سؤاله، إذ لو كان ذلك اليوم يوم عاشوراء ما سأل.

ومما يدل على ذلك ما في المعجم الكبير للطبراني عن خارجة بن زيد، قال ليس يوم عاشوراء اليوم الذي تقوله الناس؟ إنما كان يوم تستر في الكعبة، وتلعب فيه الحبشة عند رسول الله، وكان يدور في السنة، وكان الناس يأتون فلانا اليهودي فيسألونه، فلما مات اليهودي أتو زيد بن ثابت فسألوه، فصام ذلك اليوم وأمر بصيامه، حتى إنه أرسل في ذلك اليوم أسلم بن حارثة إلى قومه وهم أسلم وقال: مر قومك بصيام عاشوراء، فقال: أرأيت إن وجدتهم قد طعموا؟ قال: فليتموا أي يمسكوا تعظيما لذلك اليوم.

وفي دلائل النبوة للبيهقي عن بعض الصحابيات قالت «كان رسول الله ﷺ يعظم يوم عاشوراء ولقد سمعت رسول الله ﷺ يدعو يوم عاشوراء بالرضعاء فيتفل في أفواههم ويقول للأمهات لا ترضعنهن إلى الليل».

والظاهر أن المراد بيوم عاشوراء هذا اليوم الذي هو عاشر المحرم الهلالي لا الشمسي، وكذا يقال في قوله وقيل سمي إلخ فليتأمل.

وقيل: سمي يوم عاشوراء لأن عشرة من الأنبياء أكرمهم الله تعالى فيه بعشر كرامات تاب الله فيه على آدم واستوت فيه سفينة نوح على الجودي أي فصامه نوح ومن معه حتى الوحش شكرا لله ورفع الله فيه إدريس، ونصر الله فيه موسى. ونجى فيه إبراهيم من النار وفيه أخرج يوسف من السجن، أي وفيه ولد، ورد فيه على والده يعقوب، وأخرج فيه يونس من بطن الحوت، أي وتاب الله على أهل مدينته، وتاب الله فيه على داود، وعوفي فيه أيوب.

وفي كلام الحافظ ابن ناصر الدين عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله «إن الله عز وجل افترض على بني إسرائيل صوم يوم في السنة» وهو يوم عاشوراء، وهو اليوم العاشر من المحرم، فصوموه ووسعوا على أهاليكم فيه فإنه من وسع على أهله من ماله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته، فصوموه، وهو اليوم الذي تاب الله فيه على آدم، وذكر ما تقدم وزاد عليه/ «وأنه اليوم الذي أنزل الله فيه التوراة على موسى، وفيه فدى الله إسماعيل من الذبح، وهو اليوم الذي رد الله فيه على يعقوب بصره، وهو اليوم الذي رد الله فيه على سليمان ملكه، وهو اليوم الذي غفر الله فيه لمحمد ذنبه ما تقدم وما تأخر، وأول يوم خلق من الدنيا يوم عاشوراء، وأول مطر نزل من السماء يوم عاشوراء، وأول رحمة نزلت من السماء يوم عاشوراء، فمن صام يوم عاشوراء فكأنما صام الدهر كله، وهو صوم الأنبياء، الحديث بطوله، ثم قال: هذا حديث حسن، ورجاله ثقات.

وذكر الحافظ المذكور عن بعضهم قال: كنت أفت للنمل خبزا في كل يوم، فلما كان يوم عاشوراء لم تأكل، وتقدم أن الصُّرد أول طير صام عاشوراء.

وفي كلام بعضهم: ما قيل في يوم عاشوراء كانت توبة آدم إلى آخر ما تقدم من الأحاديث الموضوعة، وفي كلام بعض آخر: ما يفعل فيه من إظهار الزينة بالخضاب والاكتحال، ولبس الجديد، وطبخ الحبوب والأطعمة والاغتسال والتطيب من وضع الكذابين.

والحاصل أن الرافضة اتخذوا ذلك مأتما يندبون وينوحون ويحزنون فيه، والجهال اتخذوا ذلك موسما وكلاهما مخطىء مخالف للسنة، وأما التوسعة فيه على العيال، فحديثها وإن لم يكن صحيحا فهو حسن، خلافا لقول ابن تيمية إن التوسعة على العيال لم يرد فيها شيء عنه وكان يصوم عاشوراء كما تصومه اليهود، أي ويوم عاشوراء مختلف، لأنه عند اليهود من السنة الشمسية، وعند أهل الإسلام من السنة الهلالية.

وفي مسلم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن رسول الله ﷺ حين صام يوم عاشوراء وأمر بصيامه، قال له بعض الصحابة يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود، فقال رسول الله ﷺ: إذا كان العام المقبل صمنا اليوم التاسع قبله» أي مخالفة لليهود، فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله ﷺ وفي هذا الحديث إشكال، فإن سياقه يدل على أنه ما صام يوم عاشوراء ولا أمر بصيامه، إلا في السنة التي توفي فيه وهو مخالف لما سبق.

ويجاب عن هذا الإشكال بأن المراد بقوله حين صام: أي حين واظب على صومه. واتفق أن قول بعض الصحابة ذلك كان في السنة التي توفي فيها، وهو كان شأنه موافقة أهل الكتاب قبل فتح مكة ومخالفتهم بعده كما تقدم، وبعض متأخري فقهائنا ظن أن قوله «إذا كان العام المقبل إن شاء الله تعالى صمنا اليوم التاسع» من تتمة حديث «ولما قدم المدينة وجد اليهود تصومه فصامه وأمر بصيامه» فاستشكل.

وأجاب، بأن المراد لما قدم من سفرة سافرها من المدينة بعد الهجرة. أي وكان قدومه من تلك السفرة في السنة التي توفي فيها، وقد علمت أنهما حديثان؛ وقد علمت معنى الحديث الذي تتمته إذا كان العام المقبل. وفي كون إغراق فرعون ونجاة موسى كان يوم قدومه المدينة يلزم عليه أن ذلك اليوم انتقل من ذلك الشهر إلى اليوم العاشر من المحرم الذي هو الشهر الهلالي من السنة الثانية، واستمر كذلك كما هو ظاهر سياق الأحاديث أن الذي واظب على صيامه إنما هو ذلك اليوم، وكونه وافق اليهود على صوم ذلك اليوم، ثم خالفهم في السنة الثانية وما بعدها من أبعد البعيد.

ثم رأيت أبا الريحان البيروتي نازع في ذلك في كتابه (الآثار الباقية عن القرون الخالية) حيث قال: رواية أن الله أغرق فرعون ونجى موسى وقومه يوم قدومه المدينة الامتحان يشهد عليها بالبطلان، وبين ذلك بما يطول. وحينئذ يكون من جملة ما يحكم عليها بالبطلان إقرارهم على ذلك؛ وكونه صامه وأمر بصيامه وفرض الله عز وجل عليه وعلى أمته صيام شهر رمضان إو الإطعام عن كل يوم مسكينا بقوله تعالى {وعلى الذين يطيقونه} من الأصحاء المقيمين {فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا}: أي زاد على إطعام المسكين {فهو خير له وأن تصوموا خير لكم} أي من الفطر والإطعام، فكان من شاء صام، ومن شاء أطعم عن كل يوم مدا.

ثم إن الله تعالى نسخ هذا التخيير بإيجاب صوم رمضان عينا بقوله {فمن شهد منكم الشهر} أي علمه {فليصمه} إلا في حق من لا يستطيع صومه لكبر أو لمرض لا يرجى زواله فيجزيه الإطعام ورخص فيه للمريض، أي إذا كان بحيث تحصل له مشقة تبيح التيمم، وللمسافر أي الذي يباح له قصر الصلاة وإن لم يحصل له مشقة بالكلية مع وجوب القضاء إذا زال المرض والسفر بقوله تعالى {ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} أي فأفطر فعليه صيام عدة ما أفطر من أيام أخر، وكانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا بعد الغروب أو يدخل وقت العشاء الآخرة، فإذا ناموا أو دخل وقت العشاء الآخرة امتنع عليهم ذلك إلى الليلة القابلة، ثم نسخ الله ذلك، وأحل الأكل والشرب وإتيان النساء إلى طلوع الفجر ولو بعد النوم ودخول وقت العشاء بقوله تعالى {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} ثم قال تعالى {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود} ولما فهم بعض الصحابة أن المراد الخيط حقيقة حتى صار يجعل عند وسادته حبلا أبيض وحبلا أسود أنزل الله تعالى من الفجر إشارة إلى أن المراد بياض النهار وسواد الليل.

وذكر في التفسير في سبب نزول هذه الآية: «أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه واقع أهله بعد ما صلى العشاء، فلما اغتسل أخذ يبكي ويلوم نفسه فأتى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله أعتذر إلى الله وإليك من نفسي هذه الخاطئة، إني رجعت إلى أهلي فوجدت رائحة طيبة فسولت لي نفسي، فجامعت أهلي، فقال النبي ﷺ: ما كنت جديرا بذلك يا عمر. فقام رجال فاعترفوا بمثله، فنزلت» وذكر له أن بعض أصحابه سقط مغشيا عليه بسبب الصوم، فسأله عن ذلك فأخبر أنه أهل حرث، وأنه جاء لينظر ما تعمله له زوجته ليتعشى به فغلبته عينه فنام فلم يستيقظ إلا بعد الغروب، فلم يتناول شيئا فأنزل الله تعالى {وكلوا واشربوا} الآية: وقوله تعالى {كما كتب على الذين من قبلكم} جاء في بعض الروايات، أن المراد بهم أهل الكتاب: أي اليهود والنصارى، جاء في بعضها أن المراد بهم النصارى خاصة، وجاء في بعض الروايات أن المراد بهم جميع الأمم السابقة: فقد جاء «ما من أمة إلا وجب عليها صوم رمضان إلا أنهم أخطؤوه ولم يهتدوا له» وهذه الرواية تدل على أنه لم يصمه أحد من الأمم السابقة. فصومه من خصوصيات هذه الأمة.

وفي الأنساب لابن قتيبة «أول من صام رمضان نوح عليه الصلاة والسلام» هذا كلامه: وفي بعض الروايات ما يفيد أن النصارى صامته، واتفق أنه وقع في بعض السنين في شدة الحر فاقتضى رأيهم تأخيره بين الصيف والشتاء، وأن يزيدوا في مقابلة تأخيره عشرين يوما، وعلى هذا فصومه ليس من خصائص هذه الأمة، وقيل التشبيه إنما هو في مطلق الصوم لا في خصوص صوم رمضان، لأنه كان الواجب على جميع ما تقدم من الأمم صوم ثلاثة أيام من كل شهر، صام ذلك نوح فمن دونه حتى صامه النبي ﷺ كما تقدم؛ وتقدم أن تلك الأيام التي صامها كانت البيض التي هي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، وتقدم أنه قيل: إن صوم ذلك كان واجبا عليه وعلى أمته.

وقيل: كان الواجب عليه وعلى أصحابه قبل صوم رمضان عاشوراء، وتقدم رده، وكان فرض زكاة الفطر قبل العيد بيومين «وكان يخطب قبل العيد بيومين يعلم الناس زكاة الفطر فيأمر باخراج تلك الزكاة قبل الخروج إلى صلاة العيد» أي بعد أن شرعت، لأن مشروعيتها تأخرت عن مشروعية صلاة عيد الأضحى، وكان فرض زكاة الفطر قبل فرض زكاة الأموال، وكان فرض زكاة الأموال في تلك السنة التي هي الثانية، ولم أقف على خصوص الشهر الذي وجبت فيه. قال بعضهم: ولعل هذا محمل قول بعض المتأخرين المطلعين على الفقه والحديث، لم يتحرر لي وقت فرض الزكاة: أي زكاة المال، ولعله عنى ببعض المتأخرين الإمام سراج الدين البلقيني رحمه الله، لأن الإمام سراج الدين البلقيني سئل هل علمت السنة التي فرضت فيها زكاة المال؟ فأجاب بقوله: لم يتعرض الحفاظ ولا أصحاب السير للسنة التي فرض فيها زكاة المال، ووقع لي حديثان ظهر منهما تقريب ذلك ولم أسبق إليه. ثم قال: فقد ظهر أن زكاة المال بعد زكاة الفطر؛ وقيل قدوم ضمام بن ثعلبة، وقدومه كان في السنة الخامسة هذا كلامه.

وقيل: فرضت زكاة الفطر قبل الهجرة، وعليه يحمل ظاهر ما في (سفر السعادة) كان يرسل مناديا ينادي في الأسواق والمحلات والأزقة من مكة: ألا إن صدقة الفطر واجبة على كل مسلم ومسلمة الحديث.

ورد بأنه لم يفرض قبل الهجرة بعد الإيمان إلا الصلوات الخمس، وكل الفروض فرضت بعد الهجرة. وفيه أنه فرض قيام الليل كما تقدم، وصلاة الركعتين بالغداة والركعتين بالعشي على ما تقدم. إلا أن يقال المراد الفروض الموجودة الآن المستمر فرضها وما تقدم عن (سفر السعادة) يجوز أن يكون يرسل المنادي الذي ينادي في مكة بوجود زكاة الفطر وهو بالمدينة بعد وجوبها بالمدينة «وأمر أن تخرج زكاة الفطر عن الصغير والكبير والحر والعبد والذكر والأنثى صاع من تمر أو صاع من شعير أو صاع من زبيب أو صاع من بر، فكان يصلي العيدين قبل الخطبة بلا أذان ولا إقامة»» أي بل يقال: الصلاة جامعة، لكن في (سفر السعادة) «وكان إذا بلغ المصلى شرع في الصلاة من وقته بلا أذان ولا إقامة ولا الصلاة جامعة» والسنة أن لا يكون شيء من هذا كله هذا كلامه «وكانت تحمل العنزة بين يديه، فإذا وصل المصلى نصبت تجاهه» وهي عصا قدر نصف الرمح في أسفلها زج من جديد «وكان تلك العنزة للزبير بن العوام قدم بها من أرض الحبشة، فأخذها منه وكان يصلي إليها» أي أخذها منه بعد وقعة بدر. وقد قتل بها الزبير عبيدة بفتح العين المهملة وبضمها ابن سعيد بن العاص الذي كان يقال له أبو ذات الكرش. قال الزبير: لقيته لا يرى منه إلا عيناه، فقال لي أنا أبو ذات الكرش، فحملت عليه بالعنزة فطعنته في عينه فمات، وأردت إخراجها فوضعت رجلي عليه، ثم تمطيت فكان الجهد أن نزعتها وقد انثنى طرفها. ولما قبض أخذها الزبير، ثم طلبها أبو بكر رضي الله تعالى عنه فأعطاه إياها، فلما قبض أبو بكر رضي الله تعالى عنه أخذها الزبير ثم سألها عمر رضي الله تعالى عنه فأعطاه إياه، فلما قبض عمر أخذها، ثم طلبها عثمان فأعطاه إياها، فلما قتل دفعت إلى علي، ثم أخذها عبدالله بن الزبير فكانت عنده حتى قتل.

«وكان إذا رجع من صلاة عيد الفطر وخطبته يقسم زكاة الفطر بين المساكين» ولعل المراد الزكاة المتعلقة به لأنه تقدم أنه كان يأمر الناس بإخراجها قبل الصلاة. إلا أن يقال المراد بإخراجها جمعها له ليفرقها.

«وإذا فرغ من صلاة الأضحى وخطبته يؤتى له بكبشين وهو قائم في مصلاه فيذبح أحدهما بيده ويقول: هذا عن أمتي جميعا، من شهد لك بالتوحيد، وشهد لي بالبلاغ».

وعند الحاكم عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه «أن رسول الله ﷺ ذبح كبشا أقرن بالمصلى، أي بعد أن قال: بسم الله والله أكبر. وقال: اللهم هذا عني وعمن لم يضح من أمتي».

واستدل بذلك على أن من خصائصه أن يضحي عن غيره بغير إذنه «ويذبح الآخر ويقول: هذا عن محمد وآل محمد، فيأكل هووأهله منهما، ويطعم المساكين، ولم يترك الأضحية قط» وهل كانت من بعد إبراهيم تضحي هم وأممهم أو هم خاصة؟ وكان في مسجده يوم الجمعة قبل أن يوضع له المنبر يخطب ويسند ظهره إلى أسطوانة من جذوع النخل أو من الدوم وهو شجر المقل.

وعبارة بعضهم «كان يخطب الناس وهو مستند إلى جذع عند مصلاه في الحائط القبلي، فلما كثر الناس أي وقالوا له: لو اتخذت شيئا تقوم عليه إذا خطبت يراك الناس وتسمعهم خطبتك، فقال: ابنو لي منبرا لما بني له المنبر عتبتين، أي ومحل الجلوس، فكان ثلاث درجات، وقام عليه في يوم جمعة أي وخطب» وفي لفظ «لما عدل إلى المنبر ليخطب عليه وجاوز ذلك الجذع سمع لتلك الأسطوانة حنين كحنين الواله بصوت هائل سمعه أهل المسجد حتى ارتج» أي اضطرب «المسجد، وكثر بكاء الناس لذلك، ولا زالت تحنّ حتى تصدعت وانشقت» أي وفي رواية «سمع له صوت كصوت العشار» أي النوق التي أتى لحملها عشرة أشهر. وقيل التي أخذ ولدها. وفي بعض الروايات «كحنين الناقة الحاوج» وهي التي انتزع ولدها منها. وفي رواية «جأر» بفتح الجيم وبعدها همزة مفتوحة: أي صوت، أو بالخاء المعجمة بلا همزة وهو بمعناه «كخوار الثور، فنزل فالتزمها وحضنها» أي فجعلت تئن أنين الصبي الذي يسكت فيسكت.

أي وفي كلام بعضهم: وذكر الإسفراييني «أن النبي ﷺ دعاه إلى نفسه فجاءه يخرق الأرض، فالتزمه فعاد إلى مكانه» وفي رواية «ووضع يده عليها، وقال لها اسكتي واسكتي فسكتت» وفي رواية «أن هذا» أي الجذع «يبكي لما فقد من الذكر، والذي نفسي بيده لو لم ألتزمه لم يزل هكذا» أي يحن إلى يوم القيامة. زاد في رواية «حزنا على رسول الله » وقوله لما فقد من الذكر هو واضح على الرواية الأولى. وأما على الثانية فالمراد لما يفقده من الذكر، وإلى حنين الجذع أشار الإمام السبكي رحمه الله تعالى في تائيته بقوله

وحن إليك الجذع حين تركته ** حنين الثكالى عند فقد الأحبة

وعن بعضهم قال: قال لي الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه: ما أعطى الله نبيا ما أعطى محمدا، فقلت أعطى عيسى إحياء الموتى، فقال: أعطى محمدا حنين الجذع، فهذا أكبر من ذاك. وفي رواية «لا تلوموه» أي الجذع «على حنينه فإن رسول الله ﷺ لم يفارق شيئا إلا وجد عليه» أي حزن. وفي رواية «أنه قال له: إن شئت أردك إلى الحائط» أي البستان الذي كنت فيه تنبت لك عروقك ويكمل خلقك ويجدد لك حوص وثمرة، وإن شئت أغرسك في الجنة فيأكل أولياء الله من ثمرك. ثم أصغى له يسمع ما يقول فقال بصوت سمعه من يليه: بل تغرسني في الجنة، فقال رسول الله ﷺ قد فعلت قد فعلت» وفي رواية «لما أصغى إليه رسول الله ﷺ فقال: اختار أن أغرسه في الجنة» أي وفي رواية «اختار دار البقاء على دار الفناء» ولا يخالف ما قبله، لأنه يجوز أن يكون السائل من غير من سمع جوابه وأمر به فدفن تحت المنبر، وقيل جعل في السقف وأخذه عنده أبيّ رضي الله عنه بعد أن هدم المسجد وأزيل سقفه، فكان عنده إلى أن أكلته الأرضة وعاد رفاتا أي متكسرا من شدة اليبس.

أقول: في سيرة الحافظ الدمياطي قالوا «كان رسول الله ﷺ يوم الجمعة يخطب إلى جذع في المسجد قائما، فقال: إن القيام شق عليّ، فقال له تميم الداري ألا أعمل لك منبرا كما رأيت يصنع بالشام، أي تصنعه النصارى في كنائسهم لأساقفتهم تسمى المرقاة يصعدون إليها عند تذكيرهم فتشاور رسول الله ﷺ مع المسلمين في ذلك، فرأوا أن يتخذوه، فقال العباس بن عبد المطلب رضي الله عنهما إن لي غلاما يقال له كلاب أعلم الناس أي بالنجارة، فقال رسول الله ﷺ مره أن يعمله، فأرسله إلى أثلة بالغابة فقطعها ثم عمل منها درجتين ومقعدا، ثم جاء به فوضعه في موضعه اليوم، فجاء رسول الله، وقام عليه» أي وقال «إن أتخذ منبرا فقد اتخذه أبي إبراهيم» أي ولعله عنى به المقام الذي كان يقوم عليه عند بناء البيت وهو الحجر، إلا إن ثبت أن إبراهيم كان له منبر يحدث عليه الناس.

وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت النبي ﷺ وهو عند المنبر يقول «يأخذ الجبار بسمواته وأرضه بيده، ثم يقول: أنا الجبار أنا الجبار، أين الجبارون، أين المتكبرون؟ ويميل يعني النبي ﷺ عن يمينه وشماله حتى نظرت إلى المنبر يتحرك حتى إني أقول: أساقط هو برسول الله » وفي رواية عنه «فقال المنبر هكذا وهكذا، فجاء وذهب ثلاث مرات». وفي رواية عن عائشة رضي الله تعالى عنها «فرجف برسول الله ﷺ منبره حتى قلن ليحزن، وقال: منبري هذا على ترعة» بضم المثناة فوق وإسكان الراء وبالعين المهملة «من ترع الجنة، أي أفواه جداول الجنة، وقوائم منبري رواتب أي ثوابت في الجنة» وقال «منبري على حوضي» وقال «إن حوضي كما بين عدن إلى عمان، أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، وأطيب رائحة من المسك، أباريقه عدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا، وأكثر الناس ورودا عليه يوم القيامة فقراء المهاجرين. قلنا: من هم يا رسول الله؟ قال: الشعثة، رؤوسهم، الدنسة ثيابهم، الذين لا ينكحون المنعمات، ولا تفتح لهم السدد، أي الأبواب الذين يعطون الذي عليهم ولا يأخذون الذي لهم» وقال «ما بين قبري ومنبري». وفي رواية بدل قبري «بيتي» وفي لفظ «حجرتي» والمراد قبره الشريف، فإنه في حجرته، وحجرته هي بيته «روضة من رياض الجنة» أي يكون بعينه في الجنة بقعة من بقاعها أي ينقلها الله تعالى فتكون في الجنة بعينها.

وقيل إن الصلاة والدعاء فيها يستحق بذلك من الثواب ما يكون موجبا لدخول الجنة، كما قيل بذلك في قوله «الجنة تحت ظلال السيوف» مع أن تلك السيوف كانت بأرض الكفر. وقيل إنها لبركتها أضيفت إلى الجنة كما قيل في الضأن إنها من دواب الجنة.

وقال ابن حزم: ليس على ما يظنه أهل الجهل من أن تلك الروضة قطعة مقتطعة من الجنة. وقال «من حلف على منبري كاذبا ولو على سواك أراك فليتبوأ مقعده من النار» وفي رواية «إلا وجبت له النار».

أقول: وجاء «أنه كان على المنبر يعتمد على عصا من شوحط» وفي الهدى: لم يعتمد في خطبته على سيف أبدا، وقبل أن يتخذ له المنبر كان يعتمد على قوس أو عصا، أي وقيل كان يعتمد على قوس إن خطب في الحرب وعلى عصا إن خطب في غيره.

واختلف فيها؛ يعني تلك العصا، هل هي العُنزة التي كان يصلي إليها أو غيرها، وما يظنه بعض الناس من أنه كان يعتمد على سيف، وأن ذلك إشارة إلى أن الدين قام بالسيف فمن فرط جهله هذا كلامه. وفيه أن بعض فقهائنا ذكر أن اعتماده في خطبته كان على سيف روي ولم يثبت.

وذكر فقهاؤنا تلك الحكمة حيث قالوا: وحكمة اعتماده على العصا أو القوس أو السيف الإشارة إلى أن هذا الدين قام بالسلاح، وقول صاحب الهدى: وكان قبل أن يتخذ المنبر يعتمد على قوس أو عصا، يقتضي أن بعد اتخاذ المنبر لم يعتمد على شيء من ذلك، أي وصرح به صاحب القاموس في (سفر السعادة) حيث قال: لم يكن يأخذ السيف والحربة بيده، بل كان يعتمد على القوس أو العصا، وذا قبل اتخاذ المنبر؛ وأما بعد اتخاذ المنبر فلم يحفظ أنه اعتمد على العصا، ولا على القوس، ولا على غير ذلك هذا كلامه؛ فيكون الاعتماد على ذلك فوق المنبر بدعة، وهو خلاف ما عليه أئمتنا من أنه يسن أن يشغل يمناه بحرف المنبر ويسراه بما يعتمد عليه من نحو العصا، لكن قالوا: كعادة من يريد الضرب بالسيف والرمي بالقوس، وهو لا يأتي في العصا ولا يأتي في السيف إذا كان في غمده.

ووجود المرقى الذي يقرأ الآية والخبر المشهور بدعة، لأنه حدث بعد الصدر الأول ولم أقف على أول زمان فعل فيه ذلك، لكن ذكر بعضهم أنه في حجة الوداع أمر من يستنصت له الناس عند إرادة خطبته، وعليه إن كان استنصتهم بالحديث فذكر المرقى للخبر ليس من البدعة. إلا أن يقال هو بالنسبة لخطبة الجمعة بدعة، لأنه كان يذكر الحديث على المنبر، فالسنة أن يذكره الخطيب كذلك.

ففي (سفر السعادة): وكان في أثناء الخطبة يأمر الناس بالإنصات ويقول «إن الرجل إذا قال لصاحبه أنصت فقد لغا ومن لغا فلا جمعة له» وكان يقول «من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفارا، والذي يقول أنصت ليس له جمعة».

وقول الحافظ الدمياطي: كان يخطب على جذع قائما، وأنه قال: إن القيام شق عليّ، يقتضي أن حنين الجذع كان عند قيامه على ذلك المنبر من الخشب، وأنه لم يتخذ قبل ذلك المنبر من الطين الذي قدمناه، وفيه نظر. وكذا في قوله: وقال له تميم الداري إلى آخره، لأن تميما الداري إنما أسلم في السنة التاسعة، وهذا المنبر الذي من الخشب إنما فعل في السابعة أو الثامنة، وعلى هذا اقتصر الأصل حيث قال في الحوادث.

وفيها: أي السنة الثامنة اتخاذ المنبر والخطبة عليه، وحنين الجذع، وهو أول منبر عمل في الإسلام، وهو في ذلك موافق لما قدمه هو: أي الأصل من اتخاذ المنبر له من الطين قبل ذلك، وأنه كان عنده حنين الجذع.

وعلى كون المنبر عمل في الثامنة، لا يشكل كون العباس رضي الله تعالى عنه أمر غلامه بعمله، لأن العباس رضي الله عنه قدم المدينة في السنة الثامنة، لكن في بعض الروايات «أنه دعا رجلا فقال: أتصنع لي المنبر؟ قال نعم، قال: ما اسمك؟ قال فلان، قال لست بصاحبه، ثم دعا آخر فقال له مثل ذلك، ثم دعا الثالث فقال له: ما اسمك؟ قال إبراهيم، قال خذ في صنعته فصنعه» وفي رواية «عمله رجل رومي اسمه باقوم، غلام سعيد بن العاص» أي ولعله هو الذي تقدم ذكره عند بناء قريش للكعبة.

وفي رواية «أنه أرسل إلى امرأة فقال لها: مري غلامك يعمل لي أعوادا أكلم الناس عليها، فعمل له درجات من طرفاء الغابة» ويجوز أن يكون غلام العباس رضي الله تعالى عنه انتقل إلى ملك تلك المرأة، وأنه كان غلاما لسعيد بن العاص، وأنه اشترك في عمله مع إبراهيم المتقدم ذكره فنسب لكل منهما.

فعلم من كلام الأصل في غير الحوادث، أنه كان يخطب أولا على الجذع، ثم على المنبر من الطين، وأن حنين الجذع كان عند قيامه على ذلك المنبر من الطين، وهو مخالف لكلامه في الحوادث، أن حنين الجذع كان عند اتخاذه المنبر من الخشب، وأنه أول منبر عمل في الإسلام. إلا أن يقال أول منبر عمل في الإسلام من خشب، ويكون ذكر حنين الجذع عند القيام عليه من تصرف بعض الرواة، لأن حنين الجذع لم يتكرر حتى يقال جاز أن يكون كان عند قيامه على المنبر من الطين، ثم عند قيامه على المنبر من الخشب.

ثم رأيته في النور رجع كلام الأصل في غير الحوادث إلى كلام الأصل في الحوادث من أنه لم يكن له منبر من طين حيث قال: قوله أي الأصل فبنوا له منبرا، وهذا الكلام فيه تجوّز، يعني اتخذوا له منبرا، وذلك لأن المنبر كان من طرفاء الغابة وهو شجر معروف هذا كلامه، وليته عكس، لأن هذا منه يقتضي حينئذ أن يكون استمر من حين خطب في المسجد إلى السنة الثامنة يخطب إلى الجذع، لأن المنبر من الخشب اتخذ في السنة الثامنة كما تقدم عن الأصل.

ويشكل عليه قول عائشة رضي الله تعالى عنها في قصة الإفك: فثار الحيان، الأوس والخزرج حتى كادوا أن يقتتلوا ورسول الله ﷺ على المنبر» لأن قصة الإفك كانت في سنة خمس.

ثم رأيت في كتاب الشريعة للآجري عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه «كان يخطب مسندا ظهره إلى خشبة، فلما كثر الناس قال: ابنوا لي منبرا فبنوا له عتبتين» أي غير المستراح «فلما قام على المنبر يخطب حنت الخشبة» الحديث.

وعن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه «لما كثر الناس وصار يجيء القوم ولا يكادون يسمعون رسول الله ﷺ في الخطبة، قال الناس: يا رسول الله، قد كثر الناس وكثير منهم لا يكاد يسمع كلامك، فلو أنك اتخذت شيئا تخطب عليه مرتفعا من الأرض ويسمع الناس كلامك، ؛ فأرسل إلى غلام نجار لامرأة من الأنصار فاتخذ له مرقاتين من طرفاء الغابة، فلما قام حنت الخشبة التي كان يخطب إليها» هذا كلامه، وهو موافق لما تقدم عن الأصل في الحوادث.

والذي ينبغي الجمع بين الروايتين لأن ما علم من أن اتخاذ المنبر من طرفاء الغابة كان بعد اتخاذه من الطين، لأنه أقوى من الارتفاع من منبر الطين، وكون حنين الجذع عند اتخاذ المنبر من الطرفاء من تصرف بعض الرواة، لأن حنينه إنما كان عند اتخاذ المنبر من الطين، ولم يتكرر حنينه كما تقدم.

ولما ولي معاوية الخلافة كسا ذلك المنبر قُبطية، ثم كتب إلى عامله بالمدينة وهو مروان بن الحكم أن يرفع ذلك المنبر عن الأرض، فدعا بالنجارين وفعل ست درج، ورفع ذلك المنبر عليها فصارت تسع درجات. وهذا يدل على أن قوله فأتخذ له مرقاتين أي غير المستراح، ومن ثم تقدم «فعمل له درجات».

وقيل أمره بحمله إلى الشام، فلما أرادوا قلعه أظلمت المدينة وكسفت الشمس حتى بدت النجوم، وثارت ريح شديدة، فخرج مروان إلى الناس فخطبهم، وقال: يا أهل المدينة إنكم تزعمون أن أمير المؤمنين بعث إليّ أن أبعث إليه بمنبر رسول الله ﷺ وأمير المؤمنين أعلم بالله من أن يغير منبر رسول الله، إنما أمرني أن أكرمه وأرفعه ففعل ما تقدم.

وقيل: إن معاوية لما حج أراد أن ينقل المنبر إلى الشام، فحصل ما تقدم من كسوف الشمس الخ، فاعتذر معاوية للناس وقال: أردت أن أنظر إلى ما تحته وخشيت عليه من الأرضة، وكساه يومئذٍ قبطية.

ولا مانع من تعدد الواقعة، وأن واقعة معاوية سابقة على واقعة مروان، لقوله: لأنظر ما تحته، وإلا فمروان رفعه عن الأرض.

ثم إن هذا المنبر أحزق بسبب الحريق الواقع في المسجد أول مرة، فأرسل صاحب اليمن منبرا فوضع موضعه مكث عشر سنين.

وفي الإمتاع: ثم تهافت المنبر النبوي على طول الزمان، فعمل بعض خلفاء بني العباس منبرا واتخذ من أعواد المنبر النبوي أمشاطا يتبرك بها، فاحترق هذا المنبر المجدد في حريق المسجد، فبعث المظفر ملك اليمن منبرا هذا كلامه. ثم أرسل الملك الظاهر بيبرس من مصر منبرا، فرفع منبر صاحب اليمن ووضع منبر الملك الظاهر، فمكث مائة سنة واثنتين وثلاثين سنة، فبدأ فيه أكل الأرضة، فأرسل الظاهر برقوق منبرا، فرفع منبر الملك الظاهر بيبرس ووضع منبر الملك الظاهر برقوق، ومكث ثلاثا أو أربعا وعشرين سنة.

ثم إن السلطان المؤيد شيخ لما بنى مدرسته بالقاهرة التي يقال لها المؤيدية عمل أهل الشام له منبرا وأرسلوا به إليه ليجعله في مدرسته، فوجد أهل مصر قد صنعوا لها منبرا فسير المؤيد منبر أهل الشام إلى المدينة فمكث سبعا وستين سنة. ثم أحرق في الحريق الواقع في المسجد ثاني مرة، ثم جعل موضعه منبر مبني بالآجر مطلي بالنورة، فمكث إحدى وعشرين سنة ثم جعل موضعه المنبر الرخام الموجود الآن.

قيل: وأعجب منبر في الدنيا منبر جامع قرطبة قاعدة بلاد الأندلس بالمغرب. ذكر أن خشبه من ساج وأبنوس وعود قاقلي، أحكم عمله ونقشه في سبع سنين، وكان يعمل فيه سبع صناع، لكل صانع في كل يوم نصف مثقال ذهب، فكان جملة ما صرف على أجرته عشرة آلاف مثقال وخمسين مثقالا، وبالجامع المذكور مصحف فيه أربع ورقات من مصحف عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه بخط يده، وفيه نقط من دمه. وفي هذا المسجد ثلاثة أعمدة حمر، مكتوب على أحدها اسم محمد. وعلى الثاني صفة عيسى وموسى عليهما الصلاة والسلام، وأهل الكهف. وعلى الثالث صورة غراب نوح، الجميع خلقة ربانية ولا بدع.

فقد ذكر بعضهم رأيت بحمام القاهرة رخامة عليها مكتوب بسم الله الرحمن الرحيم مفسرا يقرؤه كل أحد خلقة.

وعن سهل قال «رأيت رسول الله ﷺ أول يوم جلس على المنبر أي من الخشب كبّر، فكبر الناس خلفه، ثم ركع وهو على المنبر، ثم رجع فنزل القهقري، ثم سجد في أصل المنبر، ثم عاد حتى إذا فرغ من الصلاة يصنع فيها كما يصنع في الركعة الأولى. فلما فرغ أقبل على الناس وقال: أيها الناس إنما صنعت هذا لتأتموا بي، ولتعلموا صلاتي» وقوله لتأتموا بي: أي تقتدوا بي في مثل هذا الفعل من الإحرام والركوع على المحل المرتفع ثم النزول عنه و السجود تحته ثم الصعود إليه، وهكذا إلى أن تتم الصلاة، وهذا عند أئمتنا مخصوص جوازه بما إذا لم يلزم عليه استدبار القبلة أو توالي حركات ثلاث، وقوله: «ولتعلموا صلاتي» هو واضح، لو كان ذلك أول صلاة. إلا أن يقال المراد ولتعلموا جواز صلاتي هذه.

وفي كلام فقهائنا أنه كان ينزل من المنبر، ويسجد للتلاوة أسفل المنبر، وآخر الأمرين ترك ذلك. فعلم أن منبره كان ثلاث درجات بالمستراح. وحينئذ يشكل إن صح، ما روى أن أبا بكر نزل درجة عن موقفه، وعمر نزل درجة أخرى، وعثمان درجة أخرى. ومن ثم قال في النور: وهذا يدل على أنه كان أكثر من ثلاث درجات. أي أربعة غير المستراح، وإلا يلزم أن يكون عمر وعثمان كانا يخطبان على الأرض.

قال: ويمكن تأويله، هذا كلامه، ولينظر ما تأويله، فإنه يلزم على كونه درجتين غير المستراح، أن يكون الصدّيق كان يخطب على الدرجة الثانية، وعمر يخطب على الأرض، وأن عثمان فعل كفعل عمر. وحينئذ لا يحسن قولهم وعثمان نزل درجة أخرى، إذ لا درجة بعد الدرجة الثانية ينزل عنها. وحينئذ يشكل ما في الإمتاع وهو: كان منبره درجتين ومجلسا، وكان رسول الله ﷺ يجلس على المجلس ويضع رجليه إذا قعد على الدرجة الثانية، فلما ولي أبو بكر رضي الله تعالى عنه قام على الدرجة الثانية ووضع رجليه على الدرجة السفلى، فلما ولي عمر رضي الله تعالى عنه، قام على الدرجة السفلى ووضع رجليه على الأرض إذا قعد، فلما ولي عثمان رضي الله تعالى عنه فعل كذلك: أي كفعل عمر ست سنين من خلافته ثم علا إلى موضع وقوفه، هذا كلامه، وكان ينبغي أن يقول: بدل قوله، فلما ولي أبو بكر قام على الدرجة الثانية جلس على الدرجة الثانية، وكذا قوله: فلما ولي عمر قام على الدرجة السفلى جلس على الدرجة السفلى، أي فقد خطب على الأرض وكذا عثمان.

وذكر فقهاؤنا أن منبره كان ثلاث درج غير الدرجة التي تسمى المستراح وتسمى بالمقعد والمجلس، فكان يقف على الثالثة: أي بالنسبة للسفلى، وإذا جلس يجلس على المستراح ويجعل رجليه محل وقوفه إذا قام للخطبة، وكذا الخلفاء الثلاثة كل يجعل رجليه محل وقوفه.

ويذكر أن المتوكل قال يوما لجلسائه وفيهم عبادة: أتدرون ما الذي نقم على عثمان؟ نقم عليه أشياء، منها أنه قام أبو بكر رضي الله تعالى عنه دون مقام رسول الله ﷺ بمرقاة، ثم قام عمر رضي الله تعالى عنه دونه بمرقاة، فصعد عثمان رضي الله تعالى عنه ذروة المنبر، فقال له عبادة: ما أحد أعظم منه عليك يا أمير المؤمنين من عثمان، قال: وكيف ذاك. قال: لأنه صعد ذروة المنبر وإنه لو كان كلما قام خليفة نزل عمن تقدمه كنت أنت تخطبنا في بئر عميق، فضحك المتوكل ومن حوله، وكون عثمان صعد ذروة المنبر إنما هو آخر الأمر كما علمت.

وفي كلام بعضهم: أول من اتخذ المنبر خمس عشرة درجة معاوية رضي الله تعالى عنه، وأنه أول من اتخذ الخصيان في الإسلام، وأول من قيدت بين يديه الجنائب، وعثمان أول من كسا المنبر قبطية.

وعن الواقدي أن امرأة سرقت كسوة عثمان للمنبر فأتى بها إليه، فقال لها عثمان: هل سرقت؟ قولي لا، فاعترفت، فقطعها، ثم كساه معاوية كما تقدم، ثم كساه عبدالله بن الزبير، فسرقتها امرأة فقطعها كما قطع عثمان، ثم كساه الخلفاء من بعده.

اترك تعليقاً