تفسير االطبري سورة الأعلى
سورة الأعلى كاملة بالتشكيل
سَبِّحِ ٱسۡمَ رَبِّكَ ٱلۡأَعۡلَى ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ وَٱلَّذِيٓ أَخۡرَجَ ٱلۡمَرۡعَىٰ فَجَعَلَهُۥ غُثَآءً أَحۡوَىٰ سَنُقۡرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰٓ إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُۚ إِنَّهُۥ يَعۡلَمُ ٱلۡجَهۡرَ وَمَا يَخۡفَىٰ وَنُيَسِّرُكَ لِلۡيُسۡرَىٰ فَذَكِّرۡ إِن نَّفَعَتِ ٱلذِّكۡرَىٰ سَيَذَّكَّرُ مَن يَخۡشَىٰ وَيَتَجَنَّبُهَا ٱلۡأَشۡقَى ٱلَّذِي يَصۡلَى ٱلنَّارَ ٱلۡكُبۡرَىٰ ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحۡيَىٰ قَدۡ أَفۡلَحَ مَن تَزَكَّىٰ وَذَكَرَ ٱسۡمَ رَبِّهِۦ فَصَلَّىٰ بَلۡ تُؤۡثِرُونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ وَأَبۡقَىٰٓ إِنَّ هَٰذَا لَفِي ٱلصُّحُفِ ٱلۡأُولَىٰ صُحُفِ إِبۡرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى : ( سبح اسم ربك الأعلى ( 1 ) الذي خلق فسوى ( 2 ) والذي قدر فهدى ( 3 ) والذي أخرج المرعى ( 4 ) فجعله غثاء أحوى ( 5 ) سنقرئك فلا تنسى ( 6 ) إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى ( 7 ) ) .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( سبح اسم ربك الأعلى ) فقال بعضهم : معناه : عظم ربك الأعلى ، لا رب أعلى منه وأعظم ، وكان بعضهم إذا قرأ ذلك قال : سبحان ربي الأعلى .
ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عمر أنه كان يقرأ : ( سبح اسم ربك الأعلى ) سبحان ربي الأعلى ( الذي خلق فسوى ) قال : وهي في قراءة أبي بن كعب كذلك .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : سفيان ، عن السدي ، عن عبد خير ، قال : سمعت عليا رضي الله عنه قرأ : ( سبح اسم ربك الأعلى ) فقال : سبحان ربي الأعلى .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن أبي إسحاق الهمداني ، أن ابن عباس ، كان إذا قرأ ( سبح اسم ربك الأعلى ) يقول : سبحان ربي الأعلى ، وإذا قرأ ( لا أقسم بيوم القيامة ) فأتى على آخرها ( أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ) ؟ يقول : سبحانك اللهم وبلى . [ ص: 368 ]
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( سبح اسم ربك الأعلى ) ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأها قال : سبحان ربي الأعلى .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن خارجة ، عن داود ، عن زياد بن عبد الله ، قال : سمعت ابن عباس يقرأ في صلاة المغرب : ( سبح اسم ربك الأعلى ) سبحان ربي الأعلى .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : نزه يا محمد اسم ربك الأعلى ، أن تسمي به شيئا سواه ، ينهاه بذلك أن يفعل ما فعل من ذلك المشركون من تسميتهم آلهتهم بعضها اللات وبعضها العزى .
وقال غيرهم : بل معنى ذلك : نزه الله عما يقول فيه المشركون كما قال : ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ) وقالوا : معنى ذلك : سبح ربك الأعلى; قالوا : وليس الاسم معنيا .
وقال آخرون : نزه تسميتك يا محمد ربك الأعلى وذكرك إياه أن تذكره إلا وأنت له خاشع متذلل; قالوا : وإنما عني بالاسم : التسمية ، ولكن وضع الاسم مكان المصدر .
وقال آخرون : معنى قوله : ( سبح اسم ربك الأعلى ) : صل بذكر ربك يا محمد ، يعني بذلك : صل وأنت له ذاكر ، ومنه وجل خائف .
وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب قول من قال : معناه : نزه اسم ربك أن تدعو به الآلهة والأوثان ، لما ذكرت من الأخبار ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعن الصحابة أنهم كانوا إذا قرءوا ذلك قالوا : سبحان ربي الأعلى ، فبين بذلك أن معناه كان عندهم معلوما : عظم اسم ربك ونزهه .
وقوله : ( الذي خلق فسوى ) يقول : الذي خلق الأشياء فسوى خلقها ، وعدلها ، والتسوية التعديل .
وقوله : ( والذي قدر فهدى ) يقول تعالى ذكره : والذي قدر خلقه فهدى .
واختلف أهل التأويل في المعنى الذي عني بقوله : ( فهدى ) ، فقال بعضهم : هدى الإنسان لسبيل الخير والشر ، والبهائم للمراتع .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، [ ص: 369 ] قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( قدر فهدى ) قال : هدى الإنسان للشقوة والسعادة ، وهدى الأنعام لمراتعها .
وقال آخرون : بل معنى ذلك ، هدى الذكور لمأتى الإناث . وقد ذكرنا الرواية بذلك فيما مضى .
والصواب من القول في ذلك عندنا ، أن الله عم بقوله : ( فهدى ) الخبر عن هدايته خلقه ، ولم يخصص من ذلك معنى دون معنى ، وقد هداهم لسبيل الخير والشر ، وهدى الذكور لمأتى الإناث ، فالخبر على عمومه حتى يأتي خبر تقوم به الحجة ، دال على خصوصه . واجتمعت قراء الأمصار على تشديد الدال من قدر ، غير الكسائي فإنه خففها .
والصواب في ذلك التشديد ؛ لإجماع الحجة عليه .
وقوله : ( والذي أخرج المرعى ) يقول : والذي أخرج من الأرض مرعى الأنعام من صنوف النبات وأنواع الحشيش .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن مكرم ، قال ثنا الحفري ، قال ثنا سفيان ، عن منصور ، عن أبي رزين ( أخرج المرعى ) قال : النبات .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( والذي أخرج المرعى ) الآية ، نبت كما رأيتم بين أصفر وأحمر وأبيض .
وقوله : ( فجعله غثاء أحوى ) يقول تعالى ذكره : فجعل ذلك المرعى غثاء ، وهو ما جف من النبات ويبس ، فطارت به الريح; وإنما عني به هاهنا أنه جعله هشيما يابسا متغيرا إلى الحوة ، وهي السواد من بعد البياض أو الخضرة من شدة اليبس .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، في قوله : ( غثاء أحوى ) يقول : هشيما متغيرا
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، [ ص: 370 ] قوله : ( غثاء أحوى ) قال : غثاء السيل أحوى ، قال : أسود .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال ثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : ( غثاء أحوى ) قال : يعود يبسا بعد خضرة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( فجعله غثاء أحوى ) قال : كان بقلا ونباتا أخضر ، ثم هاج فيبس ، فصار غثاء أحوى تذهب به الرياح والسيول . وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يرى أن ذلك من المؤخر الذي معناه التقديم ، وأن معنى الكلام : والذي أخرج المرعى أحوى ؛ أي : أخضر إلى السواد ، فجعله غثاء بعد ذلك ، ويعتل لقوله ذلك بقول ذي الرمة :
حواء قرحاء أشراطية وكفت فيها الذهاب وحفتها البراعيم
وهذا القول وإن كان غير مدفوع أن يكون ما اشتدت خضرته من النبات ، قد تسميه العرب أسود ، غير صواب عندي بخلافه تأويل أهل التأويل في أن الحرف إنما يحتال لمعناه المخرج بالتقديم والتأخير إذا لم يكن له وجه مفهوم إلا بتقديمه عن موضعه ، أو تأخيره ، فأما وله في موضعه وجه صحيح فلا وجه لطلب الاحتيال لمعناه بالتقديم والتأخير .
وقوله : ( سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله ) يقول تعالى ذكره : سنقرئك [ ص: 371 ] يا محمد هذا القرآن فلا تنساه ، إلا ما شاء الله .
ثم اختلف أهل التأويل في معنى قوله : ( فلا تنسى إلا ما شاء الله ) فقال بعضهم : هذا إخبار من الله نبيه عليه الصلاة والسلام أنه يعلمه هذا القرآن ويحفظه عليه ، ونهى منه أن يعجل بقراءته كما قال جل ثناؤه : ( لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه ) .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن; قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( سنقرئك فلا تنسى ) قال : كان يتذكر القرآن في نفسه مخافة أن ينسى ، فقال قائلو هذه المقالة : معنى الاستثناء في هذا الموضع على النسيان ، ومعنى الكلام : فلا تنسى ، إلا ما شاء الله أن تنساه ، ولا تذكره ، قالوا : ذلك هو ما نسخه الله من القرآن ، فرفع حكمه وتلاوته .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( سنقرئك فلا تنسى ) كان صلى الله عليه وسلم لا ينسى شيئا ( إلا ما شاء الله ) .
وقال آخرون : معنى النسيان في هذا الموضع : الترك; وقالوا : معنى الكلام : سنقرئك يا محمد فلا تترك العمل بشيء منه ، إلا ما شاء الله أن تترك العمل به ، مما ننسخه .
وكان بعض أهل العربية يقول في ذلك : لم يشأ الله أن تنسى شيئا ، وهو كقوله : ( خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك ) ولا يشاء . قال : وأنت قائل في الكلام : لأعطينك كل ما سألت إلا ما شئت ، وإلا أن أشاء أن أمنعك ، والنية أن لا تمنعه ، ولا تشاء شيئا . قال : وعلى هذا مجاري الأيمان ، يستثنى فيها ، ونية الحالف : اللمام .
والقول الذي هو أولى بالصواب عندي قول من قال : معنى ذلك : فلا تنسى إلا أن نشاء نحن أن ننسيكه بنسخه ورفعه .
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب ؛ لأن ذلك أظهر معانيه .
وقوله : ( إنه يعلم الجهر وما يخفى ) يقول تعالى ذكره : إن الله يعلم الجهر [ ص: 372 ] يا محمد من عملك ما أظهرته وأعلنته ( وما يخفى ) يقول : وما يخفى منه فلم تظهره مما كتمته ، يقول : هو يعلم جميع أعمالك سرها وعلانيتها ; يقول : فاحذره أن يطلع عليك وأنت عامل في حال من أحوالك بغير الذي أذن لك به .
القول في تأويل قوله تعالى : ( ونيسرك لليسرى ( 8 ) فذكر إن نفعت الذكرى ( 9 ) سيذكر من يخشى ( 10 ) ويتجنبها الأشقى ( 11 ) الذي يصلى النار الكبرى ( 12 ) ثم لا يموت فيها ولا يحيا ( 13 ) ) .
يقول تعالى ذكره : ونسهلك يا محمد لعمل الخير وهو اليسرى ، واليسرى : هو الفعلى من اليسر .
وقوله : ( فذكر إن نفعت الذكرى ) يقول تعالى ذكره : فذكر عباد الله يا محمد عظمته ، وعظهم ، وحذرهم عقوبته ( إن نفعت الذكرى ) يقول : إن نفعت الذكرى الذين قد آيستك من إيمانهم ، فلا تنفعهم الذكرى . وقوله : ( فذكر ) أمر من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بتذكير جميع الناس ، ثم قال : إن نفعت الذكرى هؤلاء الذين قد آيستك من إيمانهم .
وقوله : ( سيذكر من يخشى ) يقول جل ثناؤه : سيذكر يا محمد إذا ذكرت الذين أمرتك بتذكيرهم من يخشى الله ، ويخاف عقابه ( ويتجنبها ) يقول : ويتجنب الذكرى ( الأشقى ) يعني : أشقى الفريقين ( الذي يصلى النار الكبرى ) وهم الذين لم تنفعهم الذكرى .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( فذكر إن نفعت الذكرى سيذكر من يخشى ) فاتقوا الله ، ما خشي الله عبد قط إلا ذكره ( ويتجنبها الأشقى ) فلا والله لا يتنكب عبد هذا الذكر زهدا فيه وبغضا لأهله ، إلا شقي بين الشقاء .
وقوله : ( الذي يصلى النار الكبرى ) يقول : الذي يرد نار جهنم ، وهي النار [ ص: 373 ] الكبرى ، ويعني بالكبرى لشدة الحر والألم .
وقوله : ( ثم لا يموت فيها ولا يحيا ) يقول : ثم لا يموت في النار الكبرى ولا يحيا ، وذلك أن نفس أحدهم تصير فيها في حلقه ، فلا تخرج فتفارقه فيموت ، ولا ترجع إلى موضعها من الجسم فيحيا . وقيل : لا يموت فيها فيستريح ، ولا يحيا حياة تنفعه .
وقال آخرون : قيل ذلك; لأن العرب كانت إذا وصفت الرجل بوقوع في شدة شديدة ، قالوا : لا هو حي ، ولا هو ميت ، فخاطبهم الله بالذي جرى به ذلك من كلامهم .
القول في تأويل قوله تعالى : ( قد أفلح من تزكى ( 14 ) وذكر اسم ربه فصلى ( 15 ) بل تؤثرون الحياة الدنيا ( 16 ) والآخرة خير وأبقى ( 17 ) إن هذا لفي الصحف الأولى ( 18 ) صحف إبراهيم وموسى ( 19 ) ) 24 – 374 .
يقول تعالى ذكره : قد نجح وأدرك طلبته من تطهر من الكفر ومعاصي الله ، وعمل بما أمره الله به ، فأدى فرائضه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : ( قد أفلح من تزكى ) يقول : من تزكى من الشرك .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ، قال : ثنا هشام ، عن الحسن ، في قوله : ( قد أفلح من تزكى ) قال : من كان عمله زاكيا .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( قد أفلح من تزكى ) قال : يعمل ورعا .
حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : ثنا حفص بن عمر العدني ، عن الحكم ، عن عكرمة ، في قوله : ( قد أفلح من تزكى ) من قال : لا إله إلا الله .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : قد أفلح من أدى زكاة ماله . [ ص: 374 ]
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن علي بن الأقمر ، عن أبي الأحوص ( قد أفلح من تزكى ) قال : من استطاع أن يرضخ فليفعل ، ثم ليقم فليصل .
حدثنا محمد بن عمارة الرازي ، قال : ثنا أبو نعيم ، قال : ثنا سفيان ، عن علي بن الأقمر ، عن أبي الأحوص ( قد أفلح من تزكى ) قال : من رضخ .
حدثنا محمد بن عمارة ، قال : ثنا عثمان بن سعيد بن مرة ، قال : ثنا زهير ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، قال : إذا أتى أحدكم سائل وهو يريد الصلاة ، فليقدم بين يدي صلاته زكاته ، فإن الله يقول : ( قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى ) فمن استطاع أن يقدم بين يدي صلاته زكاة فليفعل .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( قد أفلح من تزكى ) تزكى رجل من ماله ، وأرضى خالقه .
وقال آخرون : بل عني بذلك زكاة الفطر .
ذكر من قال ذلك :
حدثني عمرو بن عبد الحميد الآملي ، قال : ثنا مروان بن معاوية ، عن أبي خلدة ، قال : دخلت على أبي العالية ، فقال لي : إذا غدوت غدا إلى العيد فمر بي ، قال : فمررت به ، فقال : هل طعمت شيئا ؟ قلت : نعم ، قال : أفضت على نفسك من الماء ؟ قلت : نعم ، قال : فأخبرني ما فعلت بزكاتك ؟ قلت : قد وجهتها ، قال : إنما أردتك لهذا ، ثم قرأ : ( قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى ) وقال : إن أهل المدينة لا يرون صدقة أفضل منها ومن سقاية الماء .
وقوله : ( وذكر اسم ربه فصلى ) اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( وذكر اسم ربه فصلى ) فقال بعضهم : معنى ذلك : وحد الله .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ( وذكر اسم ربه فصلى ) يقول : وحد الله سبحانه وتعالى .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وذكر الله ودعاه ورغب إليه . [ ص: 375 ]
والصواب من القول في ذلك أن يقال : وذكر الله فوحده ، ودعاه ورغب إليه ; لأن كل ذلك من ذكر الله ، ولم يخصص الله تعالى من ذكره نوعا دون نوع .
وقوله : ( فصلى ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك . فقال بعضهم : عني به : فصلى الصلوات الخمس .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : ( فصلى ) يقول : صلى الصلوات الخمس .
وقال آخرون : عني به : صلاة العيد يوم الفطر .
وقال آخرون : بل عني به : وذكر اسم ربه فدعا ، وقالوا : الصلاة هاهنا : الدعاء .
والصواب من القول أن يقال : عني بقوله : ( فصلى ) : الصلوات ، وذكر الله فيها بالتحميد والتمجيد والدعاء .
وقوله : ( بل تؤثرون الحياة الدنيا )
يقول للناس : بل تؤثرون أيها الناس زينة الحياة الدنيا على الآخرة ( والآخرة خير ) لكم ( وأبقى ) يقول : وزينة الآخرة خير لكم أيها الناس وأبقى ؛ لأن الحياة الدنيا فانية ، والآخرة باقية ، لا تنفد ولا تفنى .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( بل تؤثرون الحياة الدنيا ) فاختار الناس العاجلة إلا من عصم الله . وقوله : ( والآخرة خير ) في الخير ( وأبقى ) في البقاء .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا أبو حمزة ، عن عطاء ، عن عرفجة الثقفي ، قال : استقرأت ابن مسعود ( سبح اسم ربك الأعلى ) ، فلما بلغ : ( بل تؤثرون الحياة الدنيا ) ترك القراءة وأقبل على أصحابه ، وقال : آثرنا الدنيا على الآخرة ، فسكت القوم ، فقال : آثرنا الدنيا ; لأنا رأينا زينتها ونساءها وطعامها وشرابها ، وزويت عنا الآخرة ، فاخترنا هذا العاجل ، وتركنا الآجل .
واختلفت القراء في قراءة قوله : ( بل تؤثرون الحياة الدنيا ) فقرأ ذلك عامة قراء الأمصار : ( بل تؤثرون ) بالتاء ، إلا أبا عمرو فإنه قرأه بالياء ، وقال : يعني الأشقياء . [ ص: 376 ]
والذي لا أوثر عليه في قراءة ذلك التاء ، لإجماع الحجة من القراء عليه . وذكر أن ذلك في قراءة أبي : ( بل أنتم تؤثرون ) فذلك أيضا شاهد لصحة القراءة بالتاء .
وقوله : ( إن هذا لفي الصحف الأولى ) اختلف أهل التأويل في الذي أشير إليه بقوله هذا ، فقال بعضهم : أشير به إلى الآيات التي في ( سبح اسم ربك الأعلى ) .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن أبيه ، عن عكرمة ( إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى ) يقول : الآيات التي في ( سبح اسم ربك الأعلى ) .
وقال آخرون : قصة هذه السورة .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ( إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى ) قال : قصة هذه السورة لفي الصحف الأولى .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : إن هذا الذي قص الله تعالى في هذه السورة ( لفي الصحف الأولى ) .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( إن هذا لفي الصحف الأولى ) قال : إن هذا الذي قص الله في هذه السورة لفي الصحف الأولى ( صحف إبراهيم وموسى ) .
وقال آخرون : بل عني بذلك أن قوله : ( والآخرة خير وأبقى ) في الصحف الأولى .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( إن هذا لفي الصحف الأولى ) قال : تتابعت كتب الله كما تسمعون أن الآخرة خير وأبقى .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى ) قال : في الصحف التي أنزلها الله [ ص: 377 ] على إبراهيم وموسى أن الآخرة خير من الأولى .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قول من قال : إن قوله : ( قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى ) لفي الصحف الأولى ، صحف إبراهيم خليل الرحمن ، وصحف موسى بن عمران .
وإنما قلت : ذلك أولى بالصحة من غيره ; لأن هذا إشارة إلى حاضر ، فلأن يكون إشارة إلى ما قرب منها أولى من أن يكون إشارة إلى غيره . وأما الصحف : فإنها جمع صحيفة ، وإنما عني بها : كتب إبراهيم وموسى .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أبي الخلد ، قال : نزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان ، وأنزلت التوراة لست ليال خلون من رمضان ، وأنزل الزبور لاثنتي عشرة ليلة ، وأنزل الإنجيل لثماني عشرة ، وأنزل الفرقان لأربع وعشرين .
آخر تفسير سورة سبح اسم ربك الأعلى