ذكر جماعة من أنبياء بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام الجزء الثاني

البداية والنهاية – الجزء الثاني​ المؤلف ابن كثير
ذكر جماعة من أنبياء بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام

 

 

 

وهذه قصة العزير

قال الحافظ أبو القاسم بن عساكر: هو عزير بن جروة، ويقال: بن سوريق بن عديا بن أيوب بن درزنا بن عري بن تقي بن اسبوع بن فنحاص بن العازر بن هارون بن عمران.

ويقال: عزير بن سروخا، جاء في بعض الآثار أن قبره بدمشق، ثم ساق من طريق أبي القاسم البغوي، عن داود بن عمرو، عن حبان بن علي، عن محمد بن كريب، عن أبيه، عن ابن عباس مرفوعا لا أدري العين بيع، أم لا، ولا أدري أكان عزير نبيا أم لا.

ثم رواه من حديث مؤمل بن الحسن، عن محمد بن إسحاق السجزي، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن أبي ذؤيب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة مرفوعا نحوه.

ثم روي من طريق إسحاق بن بشر، وهو متروك عن جويبر، ومقاتل، عن الضحاك، عن ابن عباس: أن عزيرا كان ممن سباه بخت نصر، وهو غلام حدث، فلما بلغ أربعين سنة، أعطاه الله الحكمة، قال: ولم يكن أحد أحفظ ولا أعلم بالتوراة منه، قال: وكان يُذكر مع الأنبياء، حتى محى الله اسمه من ذلك، حين سأل ربه عن القدر، وهذا ضعيف ومنقطع ومنكر، والله أعلم.

وقال إسحاق بن بشر: عن سعيد، عن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن عبد الله بن سلام: أن عزيرا هو العبد الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه.

وقال إسحاق بن بشر: أنبأنا سعيد بن بشير، عن قتادة، عن كعب وسعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، ومقاتل، وجويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس، وعبد الله بن إسماعيل السدي، عن أبيه، عن مجاهد، عن ابن عباس وإدريس، عن جده وهب بن منبه قال إسحاق:

كل هؤلاء حدثوني عن حديث عزير، وزاد بعضهم على بعض قالوا بإسنادهم: إن عزيرا كان عبدا صالحا حكيما، خرج ذات يوم إلى ضيعة له يتعاهدها، فلما انصرف أتى إلى خربة حين قامت الظهيرة وأصابه الحر.

ودخل الخربة وهو على حماره، فنزل عن حماره ومعه سلة فيها تين، وسلة فيها عنب، فنزل في ظل تلك الخربة، وأخرج قصعة معه، فاعتصر من العنب الذي كان معه في القصعة، ثم أخرج خبزا يابسا معه، فألقاه في تلك القصعة في العصير، ليبتل ليأكله، ثم استلقى على قفاه، وأسند رجليه إلى الحائط، فنظر سقف تلك البيوت، ورأى ما فيها وهي قائمة على عروشها، وقد باد أهلها، ورأى عظاما بالية فقال: { أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ الله بَعْدَ مَوْتِهَا } .

فلم يشك أن الله يحييها، ولكن قالها تعجبا، فبعث الله ملك الموت فقبض روحه، فأماته الله مائة عام، فلما أتت عليه مائة عام، وكانت فيما بين ذلك في بني إسرائيل أمور وأحداث، قال: فبعث الله إلى عزير ملكا، فخلق قلبه ليعقل قلبه وعينيه، لينظر بهما فيعقل كيف يحيي الله الموتى.

ثم ركَّب خلقه وهو ينظر، ثم كسا عظامه اللحم والشعر والجلد، ثم نفخ فيه الروح، كل ذلك وهو يرى ويعقل، فاستوى جالسا فقال له الملك: كم لبثت؟ قال لبثت يوما أو بعض يوم.

وذلك أنه كان لبث صدر النهار عند الظهيرة، وبعث في آخر النهار، والشمس لم تغب، فقال: أو بعض يوم، ولم يتم لي يوم، فقال له الملك: بل لبثت مائة عام، فانظر إلى طعامك وشرابك يعني: الطعام الخبز اليابس، وشرابه العصير الذي كان اعتصره في القصعة، فإذا هما على حالهما لم يتغير العصير والخبز يابس، فذلك قوله: { لَمْ يَتَسَنَّهْ } يعني: لم يتغير.

وكذلك التين والعنب غض لم يتغير شيء من حالهما، فكأنه أنكر في قلبه، فقال له الملك: أنكرت ما قلت لك انظر إلى حمارك، فنظر إلى حماره قد بليت عظامه، وصارت نخرة، فنادى الملك عظام الحمار فأجابت، وأقبلت من كل ناحية، حتى ركبه الملك، وعزير ينظر إليه، ثم ألبسها العروق والعصب، ثم كساها اللحم، ثم أنبت عليها الجلد والشعر، ثم نفخ فيه الملك، فقام الحمار رافعا رأسه، وأذنيه إلى السماء، ناهقا يظن القيامة قد قامت فذلك قوله: { وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْما } .

يعني: وانظر إلى عظام حمارك كيف يركب بعضها بعضا في أوصالها، حتى إذا صارت عظاما مصورا حمارا بلا لحم، ثم انظر كيف نكسوها لحما.

فلما تبين له قال: أعلم أن الله على كل شيء قدير من أحياء الموتى وغيره.

قال: فركب حماره حتى أتى محلته، فأنكره الناس، وأنكر الناس، وأنكر منزله، فانطلق على وهم منه حتى أتى منزله، فإذا هو بعجوز عمياء مقعدة قد أتى عليها مائة وعشرون سنة، كانت أمة لهم.

فخرج عنهم عزير، وهي بنت عشرين سنة، كانت عرفته وعقلته، فلما أصابها الكبر أصابها الزمانة، فقال لها عزير: يا هذه أهذا منزل عزير؟

قالت: نعم هذا منزل عزير فبكت وقالت: ما رأيت أحدا من كذا وكذا سنة يذكر عزيرا، وقد نسيه الناس، قال: فإني أنا عزير، كان الله أماتني مائة سنة ثم بعثني.

قالت: سبحان الله فإن عزيرا قد فقدناه منذ مائة سنة، فلم نسمع له بذكر، قال: فإني أنا عزير.

قالت: فإن عزيرا رجل مستجاب الدعوة، يدعو للمريض، ولصاحب البلاء بالعافية والشفاء، فادع الله أن يرد علي بصري حتى أراك، فإن كنت عزيرا عرفتك، قال: فدعا ربه، ومسح بيده على عينيها فصحتا، وأخذ بيدها وقال: قومي بإذن الله، فأطلق الله رجليها، فقامت صحيحة كأنما نشطت من عقال، فنظرت فقالت: أشهد أنك عزير.

وانطلقت إلى محلة بني إسرائيل، وهم في أنديتهم ومجالسهم، وابن لعزير شيخ ابن مائة سنة وثماني عشر سنة، وبني بنيه شيوخ في المجلس فنادتهم فقالت: هذا عزير قد جاءكم فكذبوها، فقالت: أنا فلانة مولاتكم، دعا لي ربه فرد علي بصري، وأطلق رجلي، وزعم أن الله أماته مائة سنة ثم بعثه.

قال: فنهض الناس فأقبلوا إليه فنظروا إليه، فقال ابنه: كان لأبي شامة سوداء بين كتفيه، فكشف عن كتفيه فإذا هو عزير، فقالت بنو إسرائيل: فإنه لم يكن فينا أحد حفظ التوراة، فيما حدثنا غير عزير، وقد حرق بخت نصر التوراة، ولم يبق منها شيء إلا ما حفظت الرجال فاكتبها لنا، وكان أبوه سروخا، وقد دفن التوراة أيام بخت نصر في موضع يعرفه أحد غير عزير.

فانطلق بهم إلى ذلك الموضع فحفره، فاستخرج التوراة، وكان قد عفن الورق، ودرس الكتاب، قال: وجلس في ظل شجرة، وبنو إسرائيل حوله، فجدد لهم التوراة، ونزل من السماء شهابان حتى دخلا جوفه، فتذكر التوراة فجددها لبني إسرائيل، فمن ثم قالت اليهود عزير بن الله، للذي كان من أمر الشهابين، وتجديده التوراة، وقيامه بأمر بني إسرائيل.

وكان جدد لهم التوراة بأرض السواد بدير حزقيل، والقرية التي مات فيها يقال لها سايراباذ.

قال ابن عباس فكان كما قال الله تعالى: { وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ } يعني: لبني إسرائيل وذلك أنه كان يجلس مع بنيه، وهم شيوخ وهو شاب، لأنه مات وهو ابن أربعين سنة، فبعثه الله شابا كهيئة يوم مات، قال ابن عباس: بُعث بعد بخت نصر، وكذلك قال الحسن، وقد أنشد أبو حاتم السجستاني في معنى ما قاله ابن عباس:

وأسود رأس شاب من قبله ابنه * ومن قبله ابن ابنه فهو أكبر

يرى ابنه شيخا يدبّ على عصا * ولحيته سوداء والرأس أشقر

وما لابنه حيل ولا فضل قوة * يقوم كما يمشي الصبي فيعثر

يعد ابنه في الناس تسعين حجة * وعشرين لا يجري ولا يتبختر

وعمر أبيه أربعون أمرها * ولان ابنه تسعون في الناس عبر

فما هو في المعقول إن كنت داريا * وان كنت لا تدري فبالجهل تعذر

 

 

فصل:حفظ عزيرا التوراة

المشهور أن عزيرا نبي من أنبياء بني إسرائيل، وأنه كان فيما بين داود وسليمان، وبين زكريا ويحيى، وأنه لما لم يبق في بني إسرائيل من يحفظ التوراة، ألهمه الله حفظها، فسردها على بني إسرائيل، كما قال وهب بن منبه، أمر الله ملكا، فنزل بمعرفة من نور، فقذفها في عزير، فنسخ التوراة حرفا بحرف حتى فرغ منها.

وروى ابن عساكر عن ابن عباس أنه سأل عبد الله بن سلام عن قول الله تعالى: { وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ } [التوبة: 30] لم قالوا ذلك؟ فذكر له ابن سلام ما كان من كتبه لبني إسرائيل التوراة من حفظه، وقول بني إسرائيل لم يستطع موسى أن يأتينا بالتوراة إلا في كتاب، وأن عزيرا قد جاءنا بها من غير كتاب، فرماه طوائف منهم، وقالوا عزير ابن الله.

ولهذا يقول كثير من العلماء: إن تواتر التوراة انقطع في زمن العزير، وهذا متجه جدا إذا كان العزيز غير نبي، كما قاله عطاء بن أبي رباح، والحسن البصري.

وفيما رواه إسحاق ابن بشر، عن مقاتل بن سليمان، عن عطاء، وعن عثمان بن عطاء الخراساني، عن أبيه ومقاتل، عن عطاء بن أبي رباح قال:

كان في الفترة تسعة أشياء: بخت نصر، وجنة صنعاء، وجنة سبأ، وأصحاب الأخدود، وأمر حاصورا، وأصحاب الكهف، وأصحاب الفيل، ومدينة أنطاكية، وأمر تبع.

وقال إسحاق بن بشر: أنبأنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن قال: كان أمر عزير وبخت نصر في الفترة. وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله ﷺ قال:

« إن أولى الناس بابن مريم الأنبياء أولاد علات لانا إنه ليس بيني وبينه نبي ».

وقال وهب بن منبه: كان فيما بين سليمان وعيسى عليهما السلام.

وقد روى ابن عساكر، عن أنس بن مالك، وعطاء بن السائب أن عزيرا كان في زمن موسى بن عمران، وأنه استأذن عليه فلم يأذن له، يعني لما كان من سؤاله عن القدر، وأنه انصرف وهو يقول: مائة موتة أهون من ذل ساعة، وفي معنى قول عزير مائة موتة أهون من ذل ساعة قول بعض الشعراء:

قد يصبر الحر على السيف * ويأنف الصبر على الحيف

ويؤثر الموت على حالة * يعجز فيها عن قرى الضيف

فأما ما روى ابن عساكر وغيره، عن ابن عباس، ونوف البكالي، وسفيان الثوري وغيرهم، من أنه سأل عن القدر فمحا اسمه من ذكر الأنبياء، فهو منكر، وفي صحته نظر، وكأنه مأخوذ عن الإسرائيليات.

وقد روى عبد الرزاق، وقتيبة بن سعيد، عن جعفر بن سليمان، عن أبي عمران الجوني، عن نوف البكالي قال: قال عزير فيما يناجي ربه: (يا رب تخلق خلقا فتضل من تشاء، وتهدي من تشاء) فقيل له: أعرض عن هذا، فعاد فقيل له: لتعرض عن هذا أو لأمحون اسمك من الأنبياء، إني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون. وهذا لا يقتضي وقوع ما توعد عليه لو عاد فما محيا اسمه، والله أعلم.

وقد روى الجماعة سوى الترمذي من حديث يونس بن يزيد، عن الزهري، عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة، وكذلك رواه شعيب، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ:

« نزل نبي من الأنبياء تحت شجرة، فلدغته نملة، فأمر بجهازه، فأخرج من تحتها، ثم أمر بها فأحرقت بالنار، فأوحى الله إليه مهلا نملة واحدة ».

فروى إسحاق بن بشر، عن ابن جريج، عن عبد الوهاب بن مجاهد، عن أبيه أنه عزير. وكذا روى عن ابن عباس، والحسن البصري أنه عزير، فالله أعلم.

 

 

قصة زكريا ويحيى عليهما السلام

قال الله تعالى في كتابه العزيز بسم الله الرحمن الرحيم:

{ كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّا * يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّا * قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّا * قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئا * قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّا * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّا * يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّا * وَحَنَانا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيّا * وَبَرّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارا عَصِيّا * وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّا } [مريم: 1-15] .

وقال تعالى: {… وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدا وَحَصُورا وَنَبِيّا مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ * قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ } [آل عمران: 37-41] .

وقال تعالى في سورة الأنبياء: { وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبا وَرَهَبا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } [89-90] .

وقال تعالى: { وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ } [الأنعام: 85] .

قال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر في كتابه التاريخ المشهور الحافل: زكريا بن برخيا، ويقال: زكريا بن دان، ويقال: زكريا بن لدن بن مسلم بن صدوق بن حشبان بن داود بن سليمان بن مسلم بن صديقة بن برخيا بن بلعاطة بن ناحور بن شلوم بن بهفاشاط بن اينا من ابن رحبعام بن سليمان بن داود أبو يحيى النبي عليه السلام من بني إسرائيل.

دخل البثينة من أعمال دمشق في طلب ابنه يحيى، وقيل: إنه كان بدمشق حين قتل ابنه يحيى، والله أعلم.

وقد قيل غير ذلك في نسبه، ويقال فيه زكريا بالمد وبالقصر، ويقال: زكرى أيضا.

والمقصود أن الله تعالى أمر رسوله ﷺ أن يقص على الناس خبر زكريا عليه السلام، وما كان من أمره حين وهبه الله ولدا على الكبر، وكانت امرأته مع ذلك عاقرا في حال شبيبتها، وقد أسنت أيضا حتى لا ييئس أحد من فضل الله ورحمته، ولا يقنط من فضله تعالى وتقدس فقال تعالى: { ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّا } .

قال قتادة عند تفسيرها: إن الله يعلم القلب النقي، ويسمع الصوت الخفي. وقال بعض السلف: قام من الليل فنادى ربه مناداة أسرها عمن كان حاضرا عنده مخافته فقال: يا رب يا رب يا رب، فقال الله: لبيك لبيك لبيك.

{ قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي } أي: ضعف وخار من الكبر.

{ وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبا } استعارة من اشتعال النار في الحطب، أي: غلب على سواد الشعر شيبه، كما قال ابن دريد في مقصورته:

أما ترى رأسي حاكى لونه * طرة صبح تحت أذيال الدَجا

واشتعل المبيض في مسوده * مثل اشتعال النار في جمر الغضا

وآض عود اللهو يبسا ذاويا * من بعد ما قد كان مجاج الثرى

يذكر أن الضعف قد استحوذ عليه باطنا وظاهرا، وهكذا قال زكريا عليه السلام.

{ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبا } وقوله: { وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّا } أي: ما دعوتني فيما أسألك إلا الإجابة، وكان الباعث له على هذه المسألة أنه لما كفل مريم بنت عمران بن ماثان، وكان كلما دخل عليها محرابها وجد عندها فاكهة في غير أوانها، ولا في أوانها، وهذه من كرامات الأولياء، فعلم أن الرازق للشيء في غير أوانه قادر على أن يرزقه ولدا، وإن كان قد طعن في سنه.

{ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ } وقوله: { وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرا } قيل: المراد بالموالي العصبة، وكأنه خاف من تصرفهم بعده في بني إسرائيل بما لا يوافق شرع الله وطاعته، فسأل وجود ولد من صلبه يكون برا تقيا مرضيا ولهذا قال: { فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ } أي: من عندك بحولك وقوتك.

{… وَلِيّا * يَرِثُنِي… } أي: في النبوة والحكم في بني إسرائيل { وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّا } يعني: كما كان آباؤه وأسلافه من ذرية يعقوب أنبياء، فاجعله مثلهم في الكرامة التي أكرمتهم بها من النبوة والوحي.

وليس المراد ههنا وراثة المال كما زعم ذلك من زعمه من الشيعة، ووافقهم ابن جرير ههنا، وحكاه عن أبي صالح من السلف لوجوه

أحدها: ما قدمنا عند قوله تعالى: { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ } [النمل: 16] أي: في النبوة والملك، كما ذكرنا في الحديث المتفق عليه بين العلماء المروي في الصحاح والمسانيد والسنن وغيرها، من طرق عن جماعة من الصحابة: أن رسول الله ﷺ قال:

« لا نورث ما تركنا فهو صدقة ».

فهذا نص على أن رسول الله ﷺ لا يورث، ولهذا منع الصديق أن يصرف ما كان يختص به في حياته إلى أحد من وراثه، الذين لولا هذا النص لصرف إليهم، وهم: ابنته فاطمة، وأزواجه التسع، وعمه العباس رضي الله عنهم.

واحتج عليهم الصديق في منعه إياهم بهذا الحديث، وقد وافقه على روايته عن رسول الله ﷺ عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة، والزبير، وأبو هريرة، وآخرون رضي الله عنهم.

الثاني: أن الترمذي رواه بلفظ يعم سائر الأنبياء: « نحن معاشر الأنبياء لا نورث ». وصححه.

الثالث: أن الدنيا كانت أحقر عند الأنبياء من أن يكنزوا لها، أو يلتفتوا إليها، أو يهمهم أمرها، حتى يسألوا الأولاد ليحوزوها بعدهم، فإن من لا يصل إلى قريب من منازلهم في الزهادة، لا يهتم بهذا المقدار أن يسأل ولدا يكون وارثا له فيها.

الرابع: أن زكريا عليه السلام كان نجارا يعمل بيده، ويأكل من كسبها، كما كان داود عليه السلام يأكل من كسب يده، والغالب ولا سيما من مثل حال الأنبياء أنه لا يجهد نفسه في العمل إجهادا يستفضل منه ما لا يكون ذخيرة له، يخلفه من بعده، وهذا أمر بين واضح لكل من تأمله وتدبره وتفهم، إن شاء الله.

قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد – يعني ابن هرون – أنبأنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، أن رسول الله ﷺ قال: « كان زكريا نجارا ». وهكذا رواه مسلم، وابن ماجه من غير وجه عن حماد بن سلمة به.

وقوله: { يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّا } وهذا مفسر بقوله: { فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدا وَحَصُورا وَنَبِيّا مِنَ الصَّالِحِينَ } [آل عمران: 39] .

فلما بشر بالولد، وتحقق البشارة شرع يستعلم على وجه التعجب وجود الولد والحالة هذه له { قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّا } أي: كيف يوجد ولد من شيخ كبير. قيل: كان عمره إذ ذاك سبعا وسبعين سنة، والأشبه والله أعلم أنه كان أسن من ذلك.

{ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرا } يعني: وقد كانت امرأتي في حال شبيبتها عاقرا لا تلد والله أعلم، كما قال الخليل: { أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ } [الحجر: 54] وقالت سارة { قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ } [هود: 72-73] .

وهكذا أجيب زكريا عليه السلام، قال له الملك الذي يوحي إليه بأمر ربه { كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } أي: هذا سهل يسير عليه { وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئا } أي: قدرته أوجدتك بعد أن لم تكن شيئا مذكورا، أفلا يوجد منك ولدا وإن كنت شيخا.

وقال تعالى: { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبا وَرَهَبا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } [الأنبياء: 90] ومعنى إصلاح زوجته أنها كانت لا تحيض فحاضت، وقيل: كان في لسانها شئ أي: بذاءة.

{ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً } أي: علامة على وقت تعلق مني المرأة بهذا الولد المبشر به.

{ قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّا } يقول: علامة ذلك أن يعتريك سكت لا تنطق معه ثلاثة أيام إلا رمزا، وأنت في ذلك سوي الخلق، صحيح المزاج، معتدل البنية، وأمر بكثرة الذكر في هذه الحال بالقلب، واستحضار ذلك بفؤاده بالعشي والإبكار، فلما بشر بهذه البشارة خرج مسرورا بها على قومه من محرابه.

{ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّا } والوحي ههنا هو: الأمر الخفي، إما بكتابه كما قاله مجاهد والسدي، أو إشارة كما قاله مجاهد أيضا، ووهب، وقتادة.

قال مجاهد، وعكرمة، ووهب، والسدي، وقتادة: اعتقل لسانه من غير مرض.

وقال ابن زيد: كان يقرأ ويسبح ولكن لا يستطيع كلام أحد.

{ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّا } يخبر تعالى عن وجود الولد وفق البشارة الإلهية لأبيه زكريا عليه السلام، وأن الله علمه الكتاب والحكمة وهو صغير في حال صباه.

قال عبد الله بن المبارك، قال معمر، قال الصبيان ليحيى بن زكريا: اذهب بنا نلعب، فقال: ما للعب خلقنا، قال: وذلك قوله { وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّا }

وأما قوله: { وَحَنَانا مِنْ لَدُنَّا } فروى ابن جرير، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: لا أدري ما الحنان.

وعن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، والضحاك { وَحَنَانا مِنْ لَدُنَّا } أي: رحمة من عندنا رحمنا بها زكريا، فوهبنا له هذا الولد.

وعن عكرمة { وَحَنَانا } أي: محبة عليه، ويحتمل أن يكون ذلك صفة لتحنن يحيى على الناس، ولا سيما على أبويه وهو محبتهما والشفقة عليهما، وبره بهما، وأما الزكاة فهو طهارة الخلق وسلامته من النقائض والرذائل، والتقوى طاعة الله بامتثال أوامره وترك زواجره، ثم ذكر بره بوالديه وطاعته لهما أمرا ونهيا، وترك عقوقهما قولا وفعلا فقال: { وَبَرّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارا عَصِيّا } ثم قال: { وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّا } .

هذه الأوقات الثلاثة أشد ما تكون على الإنسان، فإنه ينتقل في كل منها من عالم إلى عالم آخر، فيفقد الأول بعد ما كان ألفه وعرفه ويصير إلى الآخر، ولا يدري ما بين يديه، ولهذا يستهل صارخا إذا خرج من بين الأحشاء، وفارق لينها وضمها، وينتقل إلى هذه الدار ليكابد همومها وغمها.

وكذلك إذا فارق هذه الدار وانتقل إلى عالم البرزخ بينها وبين دار القرار، وصار بعد الدور والقصور إلى عرصة الأموات سكان القبور، وانتظر هناك النفخة في الصور ليوم البعث والنشور، فمن مسرور ومحبور، ومن محزون ومثبور، وما بين جبير وكسير، وفريق في الجنة وفريق في السعير، ولقد أحسن بعض الشعراء حيث يقول:

ولدتك أمك باكيا مستصرخا * والناس حولك يضحكون سرور

فاحرص لنفسك أن تكون إذا بكوا * في يوم موتك ضاحكا مسرورا

ولما كانت هذه المواطن الثلاثة أشق ما تكون على ابن آدم سلم الله على يحيى في كل موطن منها فقال: { وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّا } .

وقال سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة: أن الحسن قال: إن يحيى وعيسى التقيا فقال له عيسى: استغفر لي أنت خير مني، فقال له الآخر: استغفر لي أنت خير مني، فقال له عيسى: أنت خير مني سلمت على نفسي وسلم الله عليك، فعرف والله فضلهما.

وأما قوله في الآية الأخرى: { وَسَيِّدا وَحَصُورا وَنَبِيّا مِنَ الصَّالِحِينَ } [آل عمران: 39] فقيل: المراد بالحصور الذي لا يأتي النساء، وقيل غير ذلك، وهو أشبه لقوله: { هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً } [آل عمران: 38] .

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد، أنبأنا علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، أن رسول الله ﷺ قال:

« ما من أحد من ولد آدم إلا وقد أخطأ أو هم بخطيئة، ليس يحيى بن زكريا، وما ينبغي لأحد يقول أنا خير من يونس بن متى ». علي بن زيد بن جدعان تكلم فيه غير واحد من الأئمة، وهو منكر الحديث.

وقد رواه ابن خزيمة، والدارقطني، من طريق أبي عاصم العباداني، عن علي بن زيد بن جدعان به مطولا. ثم قال ابن خزيمة: وليس على شرطنا.

وقال ابن وهب: حدثني ابن لهيعة، عن عقيل، عن ابن شهاب قال: خرج رسول الله ﷺ على أصحابه يوما وهم يتذاكرون فضل الأنبياء فقال قائل: موسى كليم الله، وقال قائل: عيسى روح الله وكلمته، وقال قائل: إبراهيم خليل الله، وهم يذكرون ذلك

فقال: « أين الشهيد ابن الشهيد، يلبس الوبر، ويأكل الشجر مخافة الذنب ».

قال ابن وهب: يريد يحيى بن زكريا.

وقد رواه محمد بن إسحاق وهو مدلس، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سعيد بن المسيب، حدثني ابن العاص أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: « كل ابن آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب، إلا ما كان من يحيى بن زكريا ».

فهذا من رواية ابن إسحاق وهو من المدلسين، وقد عنعن ههنا.

ثم قال عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب مرسلا.

ثم رأيت ابن عساكر ساقه من طريق أبي أسامة، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، ثم قد رواه ابن عساكر من طريق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني خطيب دمشق: حدثنا محمد بن الأصبهاني، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن عبد الله بن عمرو قال:

ما أحد لا يلقى الله بذنب إلا يحيى بن زكريا ثم تلا { وَسَيِّدا وَحَصُورا } ثم رفع شيئا من الأرض فقال: ما كان معه إلا مثل هذا، ثم ذبح ذبحا. وهذا موقوف من هذه الطريق، وكونه موقوفا أصح من رفعه، والله أعلم.

وأورده ابن عساكر من طرق: عن معمر، عن ذلك ما أورده من حديث إسحاق بن بشر وهو ضعيف، عن عثمان بن سباح، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن معاذ، عن النبي ﷺ بنحوه.

وروي من طريق أبي داود الطيالسي وغيره، عن الحكم بن عبد الرحمن بن أبي نعيم، عن أبيه، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله ﷺ:

« الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة إلا ابني الخالة يحيى وعيسى عليها السلام ».

وقال أبو نعيم الحافظ الأصبهاني: حدثنا إسحاق بن أحمد، حدثنا إبراهيم بن يوسف، حدثنا أحمد بن أبي الحواري، سمعت أبا سليمان يقول: خرج عيسى بن مريم، ويحيى بن زكريا يتماشيان، فصدم يحيى امرأة فقال له عيسى: يا ابن خالة لقد أصبت اليوم خطيئة ما أظن أنه يغفر لك أبدا.

قال: وما هي يا ابن خالة.

قال: امرأة صدمتها.

قال: والله ما شعرت بها.

قال: سبحان الله بدنك معي فأين روحك؟

قال: معلق بالعرش، ولو أن قلبي اطمأن إلى جبريل لظننت أني ما عرفت الله طرفة عين.

فيه غرابة وهو من الإسرائيليات.

وقال إسرائيل، عن أبي حصين، عن خيثمة قال: كان عيسى بن مريم، ويحيى بن زكريا ابني خالة، وكان عيسى يلبس الصوف، وكان يحيى يلبس الوبر، ولم يكن لواحد منهما دينار ولا درهم، ولا عبد ولا أمة، ولا مأوى يأويان إليه أين ماجنهما الليل أويا، فلما أرادا أن يتفرقا قال له يحيى: أوصني،.

قال: لا تغضب.

قال: لا أستطيع إلا أن أغضب.

قال: لا تقتن مالا.

قال: أما هذه فعسى.

وقد اختلفت الرواية عن وهب بن منبه هل مات زكريا عليه السلام موتا، أو قتل قتلا على روايتين.

فروى عبد المنعم بن إدريس بن سنان، عن أبيه، عن وهب بن منبه أنه قال: هرب من قومه فدخل شجرة، فجاؤوا فوضعوا المنشار عليهما، فلما وصل المنشار إلى أضلاعه أن، فأوحى الله إليه لئن لم يسكن أنينك لأقلبن الأرض ومن عليها، فسكن أنينه حتى قطع باثنتين. وقد روي هذا في حديث مرفوع سنورده بعد إن شاء الله.

وروى إسحاق بن بشر، عن إدريس بن سنان، عن وهب أنه قال: الذي انصدعت له الشجرة هو شعيا، فأما زكريا فمات موتا، فالله أعلم.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، أنبأنا أبو خلف موسى بن خلف وكان يعد من البدلاء، حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن زيد بن سلام، عن جده ممطور، عن الحارث الأشعري، أن النبي ﷺ قال: « إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بهن، وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، وكاد أن يبطئ، فقال له عيسى عليه السلام: إنك قد أمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن، وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فإما أن تبلغهن، وإما أن أبلغهن؟

فقال يا أخي: إني أخشى إن سبقتني أن أعذب أو يخسف بي، قال: فجمع يحيى بني إسرائيل في بيت المقدس حتى امتلأ المسجد، فقعد على الشرف، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:

إن الله عز وجل أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن، وآمركم أن تعملوا بهن، وأولهن: أن تعبدوا الله لا تشركوا به شيئا فإن مثل ذلك، مثل من اشترى عبدا من خالص ماله بورق أو ذهب، فجعل يعمل ويؤدي غلته إلى غير سيده، فأيكم يسره أن يكون عبده كذلك، وأن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئا.

وأمركم بالصلاة، فإن الله ينصب وجهه قبل عبده ما لم يلتفت، فإذا صليتم فلا تلتفتوا.

وأمركم بالصيام، فإن مثل ذلك كمثل رجل معه صرة من مسك في عصابة، كلهم يجد ريح المسك، وإن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك.

وأمركم بالصدقة، فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو، فشدوا يده إلى عنقه وقدموه ليضربوا عنقه، فقال: هل لكم أن أفتدي نفسي منكم؟ فجعل يفتدي نفسه منهم بالقليل والكثير حتى فك نفسه.

وآمركم بذكر الله عز وجل كثيرا، فإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعا في أثره، فأتى حصنا حصينا فتحصن فيه، وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله عز وجل »

وقال رسول الله ﷺ: «وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن: بالجماعة، والسمع، والطاعة، والهجرة، والجهاد في سبيل الله، فإن من خرج عن الجماعة قيد شبر فقد خلع ربق الإسلام من عنقه، إلا أن يرجع، ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من حثا جهنم، قال: يا رسول الله وإن صام وصلى؟ قال: وإن صام وصلى، وزعم أنه مسلم، ادعوا المسلمين بأسمائهم بما سماهم الله عز وجل المسلمين المؤمنين عباد الله عز وجل ».

وهكذا رواه أبو يعلى، عن هدبة بن خالد، عن أبان بن يزيد، عن يحيى بن أبي كثير.

وكذلك رواه الترمذي من حديث أبي داود الطيالسي، وموسى بن إسماعيل كلاهما، عن أبان بن يزيد العطار به.

ورواه ابن ماجه، عن هشام بن عمار، عن محمد بن شعيب بن سابور، عن معاوية بن سلام، عن أخيه زيد بن سلام، عن أبي سلام، عن الحارث الأشعري به.

ورواه الحاكم، من طريق مروان بن محمد الطاطري، عن معاوية بن سلام، عن أخيه به.

ثم قال: تفرد به مروان الطاطري، عن معاوية بن سلام.

قلت: وليس كما قال.

ورواه الطبراني، عن محمد بن عبدة، عن أبي نوبة الربيع بن يافع، عن معاوية بن سلام، عن أبي سلام، عن الحارث الأشعري، فذكر نحو هذه الرواية.

ثم روى الحافظ ابن عساكر، من طريق عبد الله بن أبي جعفر الرازي، عن أبيه، عن الربيع بن أنس قال: ذكر لنا عن أصحاب رسول الله ﷺ فيما سمعوا من علماء بني إسرائيل أن يحيى بن زكريا أرسل بخمس كلمات، وذكر نحو ما تقدم.

وقد ذكروا أن يحيى عليه السلام كان كثير الانفراد من الناس، إنما كان يأنس إلى البراري، ويأكل من ورق الأشجار، ويرد ماء الأنهار، ويتغذى بالجراد في بعض الأحيان، ويقول: من أنعم منك يا يحيى.

وروى ابن عساكر أن أبويه خرجا في تطلبه، فوجداه عند بحيرة الأردن، فلما اجتمعا به أبكاهما بكاء شديدا لما هو فيه من العبادة والخوف من الله عز وجل.

وقال ابن وهب، عن مالك، عن حميد بن قيس، عن مجاهد قال: كان طعام يحيى بن زكريا العشب، وإنه كان ليبكي من خشية الله حتى لو كان القار على عينيه لخرقه.

وقال محمد بن يحيى الذهلي: حدثنا أبو صالح، حدثنا الليث، حدثني عقيل، عن ابن شهاب قال: جلست يوما إلى أبي إدريس الخولاني، وهو يقص فقال: ألا أخبركم بمن كان أطيب الناس طعاما، فلما رأى الناس قد نظروا إليه قال: إن يحيى بن زكريا كان أطيب الناس طعاما، إنما كان يأكل مع الوحش كراهة أن يخالط الناس في معايشهم.

وقال ابن المبارك، عن وهيب بن الورد قال: فقد زكريا ابنه يحيى ثلاثة أيام، فخرج يلتمسه في البرية فإذا هو قد احتفر قبرا وأقام فيه يبكي على نفسه، فقال: يا بني أنا أطلبك من ثلاثة أيام، وأنت في قبر قد احتفرته قائم تبكي فيه، فقال: يا أبت ألست أنت أخبرتني أن بين الجنة والنار مفازة، لا يقطع إلا بدموع البكائين.

فقال له: ابك يا بني، فبكيا جميعا.

وهكذا حكاه وهب بن منبه ومجاهد بنحوه.

وروى ابن عساكر عنه أنه قال: إن أهل الجنة لا ينامون للذة ما هم فيه من النعيم، فكذا ينبغي للصديقين أن لا يناموا لما في قلوبهم من نعيم المحبة لله عز وجل، ثم قال: كم بين النعيمين وكم بينهما، وذكروا أنه كان كثير البكاء حتى أثر البكاء في خديه من كثرة دموعه.

 

 

بيان سبب قتل يحيى عليه السلام

وذكروا في قتله أسبابا من أشهرها: أن بعض ملوك ذلك الزمان بدمشق، كان يريد أن يتزوج ببعض محارمه، أو من لا يحل له تزويجها، فنهاه يحيى عليه السلام عن ذلك، فبقي في نفسها منه، فلما كان بينها وبين الملك ما يحب منها، استوهبت منه دم يحيى فوهبه لها، فبعثت إليه من قتله، وجاء برأسه ودمه في طشت إلى عندها، فيقال: إنها هلكت من فورها وساعتها. وقيل: بل أحبته امرأة ذلك الملك وراسلته فأبى عليها، فلما يئست منه تحيلت في أن استوهبته من الملك، فتمنع عليها الملك، ثم أجابها إلى ذلك، فبعث من قتله وأحضر إليها رأسه ودمه في طشت.

وقد ورد معناه في حديث رواه إسحاق بن بشر في كتابه المبتدأ حيث قال: أنبأنا يعقوب الكوفي، عن عمرو بن ميمون، عن أبيه، عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ ليلة أسري به رأى زكريا في السماء، فسلم عليه وقال له: يا أبا يحيى خبرني عن قتلك كيف كان، ولم قتلك بنو إسرائيل؟

قال: يا محمد أخبرك أن يحيى كان خير أهل زمانه، وكان أجملهم وأصبحهم وجها، وكان كما قال الله تعالى { وَسَيِّدا وَحَصُورا } وكان لا يحتاج إلى النساء، فهوته امرأة ملك بني إسرائيل، وكانت بغية، فأرسلت إليه وعصمه الله وامتنع يحيى وأبى عليها، فأجمعت على قتل يحيى، ولهم عيد يجتمعون في كل عام، وكانت سنة الملك أن يوعد ولا يخلف ولا يكذب.

قال: فخرج الملك إلى العيد فقامت امرأته فشيعته، وكان بها معجبا، ولم تكن تفعله فيما مضى، فلما أن شيعته قال الملك: سليني فما سألتني شيئا إلا أعطيتك، قالت: أريد دم يحيى بن زكريا، قال لها: سليني غيره. قالت: هو ذاك. قال: هو لك.

قال: فبعثت جلاوزتها إلى يحيى وهو في محرابه يصلي، وأنا إلى جانبه أصلي، قال: فذبح في طشت وحمل رأسه ودمه إليها.

قال: فقال رسول الله ﷺ:

« فما بلغ من صبرك ».

قال: ما انفتلت من صلاتي.

قال: فلما حمل رأسه إليها، فوضع بين يديها، فلما أمسوا خسف الله بالملك، وأهل بيته وحشمه، فلما أصبحوا قالت بنو إسرائيل: قد غضب إله زكريا لزكريا، فتعالوا حتى نغضب لملكنا فنقتل زكريا.

قال: فخرجوا في طلبي ليقتلوني، وجاءني النذير فهربت منهم، وإبليس أمامهم يدلهم علي، فلما تخوفت أن لا أعجزهم، عرضت لي شجرة فنادتني وقالت: إليّ إليّ، وانصدعت لي ودخلت فيها.

قال: وجاء إبليس حتى أخذ بطرف ردائي، والتأمت الشجرة وبقي طرف ردائي خارجا من الشجرة، وجاءت بنو إسرائيل فقال إبليس: أما رأيتموه دخل هذه الشجرة، هذا طرف ردائه دخلها بسحره، فقالوا: نحرق هذه الشجرة، فقال إبليس: شقوه بالمنشار شقا. قال: فشققت مع الشجرة بالمنشار، قال له النبي ﷺ:

« هل وجدت له مسا أو وجعا ».

قال: لا، إنما وجدت ذلك الشجرة التي جعل الله روحي فيها.

هذا سياق غريب جدا، وحديث عجيب، ورفعه منكر، وفيه ما ينكر على كل حال، ولم ير في شيء من أحاديث الإسراء ذكر زكريا عليه السلام إلا في هذا الحديث. وإنما المحفوظ في بعض ألفاظ الصحيح في حديث الإسراء: فمررت بابني الخالة يحيى وعيسى، وهما ابنا الخالة.

فجاء على قول الجمهور كما هو ظاهر الحديث، فإن أم يحيى أشياع بنت عمران، أخت مريم بنت عمران. وقيل: بل أشياع وهي امرأة زكريا أم يحيى، هي أخت حنة امرأة عمران أم مريم، فيكون يحيى ابن خالة مريم، فالله أعلم.

ثم اختلف في مقتل يحيى بن زكريا، هل كان في المسجد الأقصى أم بغيره على قولين؟ فقال الثوري، عن الأعمش، عن شمر بن عطية قال: قتل على الصخرة التي ببيت المقدس سبعون نبيا، منهم يحيى بن زكريا عليه السلام.

وقال أبو عبيد القاسم ابن سلام، حدثنا عبد الله بن صالح، عن الليث، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب قال: قدم بخت نصر دمشق، فإذا هو بدم يحيى بن زكريا يغلي، فسأل عنه فأخبروه، فقتل على دمه سبعين ألفا فسكن. وهذا إسناد صحيح إلى سعيد بن المسيب، وهو يقتضي أنه قتل بدمشق، وإن قصة بخت نصر كانت بعد المسيح، كما قاله عطاء، والحسن البصري، فالله أعلم.

وروى الحافظ ابن عساكر، من طريق الوليد بن مسلم، عن زيد بن واقد قال: رأيت رأس يحيى بن زكريا حين أرادوا بناء مسجد دمشق أخرج من تحت ركن من أركان القبلة الذي يلي المحراب مما يلي الشرق، فكانت البشرة والشعر على حاله لم يتغير، وفي رواية كأنما قتل الساعة، وذكر في بناء مسجد دمشق، أنه جعل تحت العمود المعروف بعمود السكاسكة فالله أعلم.

وقد روى الحافظ ابن عساكر في المستقصى في فضائل الأقصى من طريق العباس بن صبح، عن مروان، عن سعيد بن عبد العزيز، عن قاسم مولى معاوية قال: كان ملك هذه المدينة – يعني دمشق – هداد بن هداد وكان قد زوجه ابنه بابنة أخيه أريل ملكة صيدا، وقد كان من جملة أملاكها سوق الملوك بدمشق، وهو الصاغة العتيقة.

قال: وكان قد حلف بطلاقها ثلاثا، ثم أنه أراد مراجعتها، فاستفتى يحيى بن زكريا فقال: لا تحل لك حتى تنكح زوجا غيرك، فحقدت عليه وسألت من الملك رأس يحيى بن زكريا، وذلك بإشارة أمها، فأبى عليها ثم أجابها إلى ذلك، وبعث إليه وهو قائم يصلي بمسجد جيرون من أتاه برأسه في صينية، فجعل الرأس يقول له: لا تحل له، لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره.

فأخذت المرأة الطبق فحملته على رأسها، وأتت به أمها وهو يقول كذلك، فلما تمثلت بين يدي أمها خسف بها إلى قدميها، ثم إلى حقويها، وجعلت أمها تولول والجواري يصرخن، ويلطمن وجوههن، ثم خسف بها إلى منكبيها، فأمرت أمها السياف أن يضرب عنقها، لتتسلى برأسها ففعل، فلفظت الأرض جثتها عند ذلك، ووقعوا في الذل والفناء.

ولم يزل دم يحيى يفور، حتى قدم بخت نصر فقتل عليه خمسة وسبعين ألفا.

قال سعيد بن عبد العزيز: وهي دم كل نبي، ولم يزل يفور حتى وقف عنده أرميا عليه السلام فقال: أيها الدم أفنيت بني إسرائيل فاسكن بإذن الله، فسكن فرفع السيف وهرب من هرب من أهل دمشق إلى بيت المقدس، فتبعهم إليها فقتل خلقا كثيرا لا يحصون كثرة، وسبا منهم، ثم رجع عنهم.

 

 

 

قصة عيسى بن مريم عبد الله ورسوله وابن أمته عليه من الله أفضل الصلاة والسلام

قال الله تعالى في سورة آل عمران، التي أنزل صدرها وهو ثلاث وثمانون آية، منها في الرد على النصارى عليهم لعائن الله، الذين زعموا أن لله ولدا تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، وكان قد قدم وفد نجران منهم على رسول الله ﷺ، فجعلوا يذكرون ما هم عليه من الباطل من التثليث في الأقانيم، ويدعون بزعمهم أن الله ثالث ثلاثة، وهم: الذات المقدسة، وعيسى، ومريم، على اختلاف فرقهم.

فأنزل الله عز وجل صدر هذه السورة، بين فيها أن عيسى عبد من عباد الله، خلقه وصوره في الرحم كما صور غيره من المخلوقات، وأنه خلقه من غير أب، كما خلق آدم من غير أب ولا أم، وقال له: كن فكان، سبحانه وتعالى، وبين أصل ميلاد أمه مريم، وكيف كان من أمرها وكيف حملت بولدها عيسى، وكذلك بسط ذلك في سورة مريم، كما سنتكلم على ذلك كله بعون الله وحسن توفيقه وهدايته.

فقال تعالى وهو أصدق القائلين: { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتا حَسَنا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [آل عمران: 33-37] .

يذكر تعالى أنه اصطفى آدم عليه السلام، والخلص من ذريته المتبعين شرعه الملازمين طاعته، ثم خصص فقال: { وَآلَ إِبْرَاهِيمَ } فدخل فيهم بنو إسماعيل، وبنو إسحاق. ثم ذكر فضل هذا البيت الطاهر الطيب وهم آل عمران، والمراد بعمران هذا: والد مريم عليها السلام.

وقال محمد بن إسحاق: وهو عمران بن باشم بن أمون بن ميشا بن حزقيا بن احريق بن موثم بن عزازيا بن امصيا بن ياوش بن احريهو بن يازم بن يهفاشاط بن ايشا بن ايان بن رحبعام بن سليمان بن داود.

وقال أبو القاسم ابن عساكر: مريم بنت عمران بن ماثان بن العازر بن اليود بن اخنر بن صادوق بن عيازوز بن الياقيم بن ايبود بن زريابيل بن شالتال بن يوحينا بن برشا بن امون بن ميشا بن حزقا بن احاز بن موثام بن عزريا بن يورام بن يوشافاط بن ايشا بن ايبا بن رحبعام بن سليمان بن داود عليه السلام، وفيه مخالفة كما ذكره محمد بن إسحاق.

ولا خلاف أنها من سلالة داود عليه السلام. وكان أبوها عمران صاحب صلاة بني إسرائيل في زمانه، وكانت أمها وهي حنة بنت فاقود بن قبيل من العابدات، وكان زكريا نبي ذلك الزمان زوج أخت مريم اشياع في قول الجمهور، وقيل: زوج خالتها اشياع فالله أعلم.

وقد ذكر محمد بن إسحاق وغيره: أن أم مريم كانت لا تحبل، فرأت يوما طائرا يزق فرخا له، فاشتهت الولد فنذرت لله إن حملت لتجعلن ولدها محررا أي حبيسا في خدمة بيت المقدس، قالوا: فحاضت من فورها، فلما طهرت واقعها بعلها فحملت بمريم عليها السلام، { فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } وقرئ: بضم التاء

{ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى } أي: في خدمة بيت المقدس، وكانوا في ذلك الزمان ينذرون لبيت المقدس خداما من أولادهم.

وقولها: { وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ } استدل به على تسمية المولود يوم يولد، وكما ثبت في الصحيحين عن أنس في ذهابه بأخيه إلى رسول الله ﷺ، فحنك أخاه وسماه عبد الله.

وجاء في حديث الحسن، عن سمرة مرفوعا:

« كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويسمى ويحلق رأسه ».

رواه أحمد، وأهل السنن، وصححه الترمذي، وجاء في بعض ألفاظه « ويدمى » بدل « ويسمى » وصححه بعضهم، والله أعلم.

وقولها: { وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } قد استجيب لها في هذا كما تقبل منها نذرها.

فقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال:

« ما من مولود إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخا من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها ».

ثم يقول أبو هريرة: واقرؤا إن شئتم { وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } [مريم: 36] .

أخرجاه من حديث عبد الرزاق.

ورواه ابن جرير، عن أحمد بن الفرج، عن بقية، عن عبد الله بن الزبيدي، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ بنحوه.

وقال أحمد أيضا: حدثنا إسماعيل بن عمر، حدثنا ابن أبي ذؤيب، عن عجلان مولى المشمعل، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال:

« كل مولود من بني آدم يمسه الشيطان بإصبعه إلا مريم بنت عمران وابنها عيسى ».

تفرد به من هذا الوجه.

ورواه مسلم، عن أبي الطاهر، عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن أبي يونس مولى أبي هريرة، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ بنحوه.

وقال أحمد: حدثنا هشيم، حدثنا حفص بن ميسرة، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال:

« كل إنسان تلده أمه يلكزه الشيطان في حضينه، إلا ما كان من مريم وابنها، ألم تر إلى الصبي حين يسقط كيف يصرخ، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ذلك حين يلكزه الشيطان بحضينه ».

وهذا على شرط مسلم، ولم يخرجه من هذا الوجه.

ورواه قيس، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ:

« ما من مولود إلا وقد عصره الشيطان عصرة أو عصرتين، إلا عيسى بن مريم ومريم ». ثم قرأ رسول الله ﷺ { وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ }

وكذا رواه محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ بأصل الحديث.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الملك حدثنا المغيرة – هو ابن عبد الله الحزامي – عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ:

« قال كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبه حين يولد إلا عيسى بن مريم ذهب يطعن فطعن في الحجاب ».

وهذا على شرط الصحيحين ولم يخرجوه من هذا الوجه.

وقوله: { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتا حَسَنا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } ذكر كثير من المفسرين أن أمها حين وضعتها، لفتها في خروقها، ثم خرجت بها إلى المسجد، فسلمتها إلى العباد الذين هم مقيمون به، وكانت ابنة إمامهم وصاحب صلاتهم، فتنازعوا فيها.

والظاهر أنها إنما سلمتها إليهم بعد رضاعها، وكفالة مثلها في صغرها، ثم لما دفعتها إليهم تنازعوا في أيهم يكفلها، وكان زكريا نبيهم في ذلك الزمان، وقد أراد أن يستبد بها دونهم من أجل أن زوجته أختها أو خالتها على القولين، فشاحوه في ذلك وطلبوا أن يقترع معهم، فساعدته المقادير فخرجت قرعته غالبة لهم، وذلك أن الخالة بمنزلة الأم.

قال الله تعالى: { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } أي: بسبب غلبه لهم في القرعة، كما قال تعالى: { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } [آل عمران: 44] .

قالوا: وذلك أن كلا منهم ألقى قلمه معروفا به، ثم حملوها ووضعوها في موضع، وأمروا غلاما لم يبلغ الحنث، فأخرج واحدا منها، وظهر قلم زكريا عليه السلام، فطلبوا أن يقترعوا مرة ثانية، وأن يكون ذلك بأن يلقوا أقلامهم في النهر، فأيهم جرى قلمه على خلاف جريه في الماء فهو الغالب، ففعلوا فكان قلم زكريا هو الذي جرى على خلاف جرية الماء، وسارت أقلامهم مع الماء.

ثم طلبوا منه أن يقترعوا ثالثة فأيهم جرى قلمه مع الماء ويكون بقية الأقلام قد انعكس سيرها صعدا فهو الغالب، ففعلوا فكان زكريا هو الغالب لهم، فكفلها إذ كان أحق بها شرعا وقدرا لوجوه عديدة.

قال الله تعالى: { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [آل عمران: 37] .

قال المفسرون: اتخذ لها زكريا مكانا شريفا من المسجد لا يدخله سواه، فكانت تعبد الله فيه، وتقوم بما يجب عليها من سدانة البيت، إذا جاءت نوبتها، وتقوم بالعبادة ليلها ونهارها، حتى صارت يضرب بها المثل بعبادتها في بني إسرائيل، واشتهرت بما ظهر عليها من الأحوال الكريمة، والصفات الشريفة.

حتى أنه كان نبي الله زكريا كلما دخل عليها موضع عبادتها يجد عندها رزقا غريبا في غير أوانه، فكان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف، فيسألها { أَنَّى لَكِ هَذَا } فتقول: { هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } أي: رزق رزقنيه الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب.

فعند ذلك وهنالك طمع زكريا في وجود ولد من صلبه، وإن كان قد أسن وكبر، قال: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ } [آل عمران: 38] قال بعضهم: قال يا من يرزق مريم الثمر في غير أوانه، هب لي ولدا وإن كان في غير أوانه، فكان من خبره وقضيته ما قدمنا ذكره في قصته.

قال الله تعالى: { وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ * ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَمِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * وَرَسُولا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَمُصَدِّقا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } [آل عمران: 42-51] .

يذكر تعالى أن الملائكة بشرت مريم باصطفاء الله لها من بين سائر نساء عالمي زمانها، بأن اختارها لإيجاد ولد منها من غير أب، وبشرت بأن يكون نبيا شريفا

{ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ } أي: في صغره، يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وكذلك في حال كهولته، فدل على أنه يبلغ الكهولة، ويدعو إلى الله فيها.

وأمرت بكثرة العبادة، والقنوت، والسجود، والركوع، لتكون أهلا لهذه الكرامة، ولتقوم بشكر هذه النعمة، فيقال: إنها كانت تقوم في الصلاة حتى تفطرت قدماها، رضي الله عنها ورحمها ورحم أمها وأباها.

فقول الملائكة: { يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ } أي: اختارك واجتباك. { وَطَهَّرَكِ } أي: من الأخلاق الرذيلة وأعطاك الصفات الجميلة { وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ } يحتمل أن يكون المراد عالمي زمانها، كقوله لموسى: { إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ } [الأعراف: 144] .

وكقوله عن بني إسرائيل: { وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } [الدخان: 32] .

ومعلوم أن إبراهيم عليه السلام أفضل من موسى، وأن محمدا ﷺ أفضل منهما، وكذلك هذه الأمة أفضل من سائر الأمم قبلها، وأكثر عددا وأفضل علما وأزكى عملا من بني إسرائيل وغيرهم.

ويحتمل أن يكون قوله: { وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ } محفوظ العموم، فتكون أفضل نساء الدنيا ممن كان قبلها، ووجد بعدها، لأنها إن كانت نبية على قول من يقول بنبوتها، ونبوة سارة أم إسحاق، ونبوة أم موسى، محتجا بكلام الملائكة والوحي إلى أم موسى، كما يزعم ذلك ابن حزم وغيره، فلا يمتنع على هذا أن يكون مريم أفضل من سارة وأم موسى، لعموم قوله: { وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ } إذ لم يعارضه غيره، والله أعلم.

وأما قول الجمهور كما قد حكاه أبو الحسن الأشعري وغيره، عن أهل السنة والجماعة من أن النبوة مختصة بالرجال، وليس في النساء نبية، فيكون أعلى مقامات مريم، كما قال الله تعالى: { مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ } [المائدة: 75] فعلى هذا لا يمتنع أن تكون أفضل الصديقات المشهورات ممن كان قبلها، وممن يكون بعدها، والله أعلم.

وقد جاء ذكرها مقرونا مع آسية بنت مزاحم، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، رضي الله عنهن وأرضاهن.

وقد روى الإمام أحمد، والبخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، من طرق عديدة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ:

« خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد ».

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، عن قتادة، عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ:

« حسبك من نساء العالمين بأربع: مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد ».

ورواه الترمذي عن أبي بكر بن زانجويه، عن عبد الرزاق به وصححه. ورواه ابن مردويه من طريق عبد الله بن أبي جعفر الرازي وابن عساكر من طريق تميم بن زياد، كلاهما عن أبي جعفر الرازي، عن ثابت عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ:

« خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد رسول الله ».

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب قال: كان أبو هريرة يحدث أن النبي ﷺ قال:

« خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه لزوج في ذات يده ».

قال أبو هريرة: ولم تركب مريم بعيرا قط.

وقد رواه مسلم في صحيحه، عن محمد بن رافع، وعبد بن حميد كلاهما عن عبد الرزاق به.

وقال أحمد: حدثنا زيد بن الجباب، حدثني موسى بن علي، سمعت أبي يقول: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله ﷺ:

« خير نساء ركبن الإبل نساء قريش أحناه على ولد في صغره وأرأفه بزوج على قلة ذات يده ».

قال أبو هريرة: وقد علم رسول الله ﷺ أن ابنة عمران لم تركب الإبل، تفرد به، وهو على شرط الصحيح.

ولهذا الحديث طرق أخر عن أبي هريرة.

وقال أبو يعلى الموصلي: حدثنا زهير، حدثنا يونس بن محمد، حدثنا داود بن أبي الفرات، عن علباء بن أحمر، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: خط رسول الله ﷺ في الأرض أربع خطوط فقال:

« أتدرون ما هذا؟ »

قالوا: الله ورسوله أعلم.

فقال رسول الله ﷺ: « أفضل نساء أهل الجنة: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون ».

ورواه النسائي من طرق، عن داود بن أبي هند، وقد رواه ابن عساكر من طريق أبي بكر عبد الله بن أبي داود سليمان بن الأشعث:

حدثنا يحيى بن حاتم العسكري، نبأنا بشر بن مهران بن حمدان، حدثنا محمد بن دينار، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله ﷺ:

« حسبك منهن أربع سيدات نساء العالمين: فاطمة بنت محمد، وخديجة بنت خويلد، وآسية بنت مزاحم، ومريم بنت عمران ».

وقال أبو القاسم البغوي: حدثنا وهب بن منبه، حدثنا خالد بن عبد الله الواسطي، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن عائشة أنها قالت لفاطمة: أرأيت حين أكبت على رسول الله ﷺ فبكيت ثم ضحكت؟

قالت: أخبرني أنه ميت من وجعه هذا فبكيت، ثم أكببت عليه فأخبرني أني أسرع أهله لحوقا به وأني سيدة نساء أهل الجنة، إلا مريم بنت عمران فضحكت.

وأصل هذا الحديث في الصحيح، وهذا إسناد على شرط مسلم وفيه: أنهما أفضل الأربع المذكورات.

وهكذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا عثمان بن محمد، حدثنا جرير، عن يزيد – هو ابن أبي زياد – عن عبد الرحمن بن أبي نعيم، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله ﷺ:

« فاطمة سيدة نساء أهل الجنة، إلا ما كان من مريم بنت عمران ».

إسناد حسن، وصححه الترمذي ولم يخرجوه.

وقد روي نحوه من حديث علي بن أبي طالب، ولكن في إسناده ضعف. والمقصود أن هذا يدل على أن مريم وفاطمة أفضل هذه الأربع، ثم يحتمل الاستثناء أن تكون مريم أفضل من فاطمة، ويحتمل أن يكونا على السواء في الفضيلة، لكن ورد حديث إن صح عين الاحتمال الأول.

فقال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر: أنبأنا أبو الحسن بن الفرا، وأبو غالب، وأبو عبد الله ابنا البنا، قالوا: أنبأنا أبو جعفر بن المسلمة، أنبأنا أبو طاهر المخلص، حدثنا أحمد بن سليمان، حدثنا الزبير -هو ابن بكار – حدثنا محمد بن الحسن، عن عبد العزيز بن محمد، عن موسى بن عقبة، عن كريم، عن ابن عباس قال:

قال رسول الله ﷺ:

« سيدة نساء أهل الجنة مريم بنت عمران، ثم فاطمة، ثم خديجة، ثم آسية امرأة فرعون » فإن كان هذا اللفظ محفوظا بثم التي للترتيب، فهو مبين لأحد الاحتمالين اللذين دل عليهما الاستثناء، وتقدم على ما تقدم من الألفاظ التي وردت بواو العطف التي لا تقتضي الترتيب ولا تنفيه، والله أعلم.

وقد روى هذا الحديث أبو حاتم الرازي، عن داود الجعفري، عن عبد العزيز بن محمد – وهو الدراوردي – عن إبراهيم بن عقبة، عن كريب، عن ابن عباس مرفوعا، فذكره بواو العطف، لا بثم الترتيبية، فخالفه إسنادا ومتنا، فالله أعلم.

فأما الحديث الذي رواه ابن مردويه من حديث شعبة، عن معاوية بن قرة، عن أبيه قال: قال رسول الله ﷺ:

« كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا ثلاث: مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ».

وهكذا الحديث الذي رواه الجماعة إلا أبا داود من طرق، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن مرة الهمداني، عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله ﷺ:

« كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ».

فإنه حديث صحيح كما ترى، اتفق الشيخان على إخراجه ولفظه يقتضي حصر الكمال في النساء في مريم وآسية، ولعل المراد بذلك في زمانهما، فإن كلا منهما كفلت نبيا في حال صغره، فآسية كفلت موسى الكليم، ومريم كفلت ولدها عبد الله ورسوله، فلا ينفي كمال غيرهما في هذه الأمة كخديجة، وفاطمة فخديجة خدمت رسول الله ﷺ قبل البعثة خمسة عشر سنة، وبعدها أزيد من عشر سنين، وكانت له وزير صدق بنفسها ومالها رضي الله عنها وأرضاها.

وأما فاطمة بنت رسول الله ﷺ فإنها خصت بمزيد فضيلة على أخواتها، لأنها أصيبت برسول الله ﷺ وبقية أخواتها متن في حياة النبي ﷺ.

وأما عائشة فإنها كانت أحب أزواج رسول الله ﷺ إليه، ولم يتزوج بكرا غيرها، ولا يعرف في سائر النساء في هذه الأمة بل ولا في غيرها أعلم منها ولا أفهم، وقد غار الله لها حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، فأنزل براءتها من فوق سبع سموات.

وقد عمرت بعد رسول الله ﷺ قريبا من خمسين سنة، تبلغ عنه القرآن والسنة، وتفتي المسلمين، وتصلح بين المختلفين، وهي أشرف أمهات المؤمنين حتى خديجة بنت خويلد أم البنات والبنين، في قول طائفة من العلماء السابقين واللاحقين، والأحسن الوقف فيهما، رضي الله عنهما وما ذاك إلا لأن قوله ﷺ:

« وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ».

يحتمل أن يكون عاما بالنسبة إلى المذكورات وغيرهن، ويحتمل أن يكون عاما بالنسبة إلى ما عدى المذكورات، والله أعلم.

والمقصود ههنا ذكر ما يتعلق بمريم بنت عمران عليها السلام، فإن الله طهرها واصطفاها على نساء عالمي زمانها، ويجوز أن يكون تفضيلها على النساء مطلقا، كما قدمنا.

وقد ورد في حديث أنها تكون من أزواج النبي ﷺ في الجنة، هي وآسية بنت مزاحم. وقد ذكرنا في التفسير عن بعض السلف أنه قال ذلك، واستأنس بقوله: { ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارا } [التحريم: 5] قال: فالثيب آسية، ومن الأبكار مريم بنت عمران، وقد ذكرناه في آخر سورة التحريم، فالله أعلم.

قال الطبراني: حدثنا عبد الله بن ناجية، حدثنا محمد بن سعد العوفي، حدثنا أبي، أنبأنا عمي الحسين، حدثنا يونس بن نفيع، عن سعد بن جنادة – هو العوفي – قال: قال رسول الله ﷺ:

« إن الله زوجني في الجنة مريم بنت عمران، وامرأة فرعون، وأخت موسى ».

وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا إبراهيم بن عرعرة، حدثنا عبد النور بن عبد الله، حدثنا يونس بن شعيب، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله ﷺ:

« أشعرت أن الله زوجني مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، وكلثم أخت موسى ».

رواه ابن جعفر العقيلي من حديث عبد النور به، وزاد: فقلت هنيئا لك يا رسول الله.

ثم قال العقيلي: وليس بمحفوظ.

وقال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن الحسن، عن يعلى بن المغيرة، عن ابن أبي داود قال: دخل رسول الله ﷺ على خديجة وهي في مرضها الذي توفيت فيه، فقال لها:

« بالكره مني ما أرى منك يا خديجة، وقد يجعل الله في الكره خيرا كثيرا، أما علمت أن الله قد زوجني معك في الجنة: مريم بنت عمران، وكلثم أخت موسى، وآسية امرأة فرعون ».

قالت: وقد فعل الله بك ذلك يا رسول الله؟

قال: « نعم ».

قالت: بالرفاء والبنين.

وروى ابن عساكر من حديث محمد بن زكريا الغلابي: حدثنا العباس بن بكار، حدثنا أبو بكر الهزلي، عن عكرمة، عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ دخل على خديجة، وهي في مرض الموت فقال:

« يا خديجة إذا لقيت ضرائرك فاقرئهن مني السلام ».

قالت: يا رسول الله وهل تزوجت قبلي؟

قال: « لا، ولكن الله زوجني مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، وكلثم أخت موسى ».

وروى ابن عساكر من طريق سويد بن سعيد: حدثنا محمد بن صالح بن عمر، عن الضحاك ومجاهد، عن ابن عمر قال: نزل جبريل إلى رسول الله ﷺ بما أرسل به، وجلس يحدث رسول الله ﷺ إذ مرت خديجة فقال جبريل: من هذه يا محمد؟

قال: « هذه صديقة أمتي »

قال جبريل: معي إليها رسالة من الرب عز وجل يقرئها السلام، ويبشرها ببيت في الجنة من قصب بعيد من اللهب، لا نصب فيه ولا صخب.

قالت: الله السلام، ومنه السلام، والسلام عليكما ورحمة الله وبركاته على رسول الله ما ذلك البيت الذي من قصب؟

قال: « لؤلؤة جوفاء بين بيت مريم بنت عمران، وبيت آسية بنت مزاحم، وهما من أزواجي يوم القيامة ».

وأصل السلام على خديجة من الله، وبشارتها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه، ولا وصب، في الصحيح. ولكن هذا السياق بهذه الزيادات غريب جدا، وكل من هذه الأحاديث في أسانيدها نظر.

وروى ابن عساكر من حديث أبي زرعة الدمشقي: حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني معاوية، عن صفوان بن عمرو، عن خالد بن معدان، عن كعب الأحبار أن معاوية سأله عن الصخرة، يعني: صخرة بيت المقدس، فقال: الصخرة على نخلة، والنخلة على نهر من أنهار الجنة، وتحت النخلة مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، ينظمان سموط أهل الجنة حتى تقوم الساعة.

ثم رواه من طريق إسماعيل، عن عياش، عن ثعلبة بن مسلم، عن مسعود، عن عبد الرحمن، عن خالد بن معدان، عن عبادة بن الصامت، عن النبي ﷺ بمثله.

وهذا منكر من هذا الوجه، بل هو موضوع، قد رواه أبو زرعة، عن عبد الله بن صالح، عن معاوية، عن مسعود بن عبد الرحمن، عن ابن عابد أن معاوية سأل كعبا عن صخرة بيت المقدس فذكره.

قال الحافظ بن عساكر: وكونه من كلام كعب الأحبار أشبه.

قلت: وكلام كعب الأحبار هذا، إنما تلقاه من الإسرائيليات التي منها ما هو مكذوب مفتعل، وضعه بعض زنادقتهم أو جهالهم، وهذا منه، والله أعلم.

 

 

 

 

اترك تعليقاً