أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ (5)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه : ( ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ( 1 ) ألم يجعل كيدهم في تضليل ( 2 ) وأرسل عليهم طيرا أبابيل ( 3 ) ترميهم بحجارة من سجيل ( 4 ) فجعلهم كعصف مأكول ( 5 ) ) .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ألم تنظر يا محمد بعين قلبك ، فترى بها ( كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ) الذين قدموا من اليمن يريدون تخريب الكعبة من الحبشة ورئيسهم أبرهة الحبشي الأشرم ( ألم يجعل كيدهم في تضليل )
يقول : ألم يجعل سعي الحبشة أصحاب الفيل في تخريب الكعبة ( في تضليل ) يعني : في تضليلهم عما أرادوا وحاولوا من تخريبها .
وقوله : ( وأرسل عليهم طيرا أبابيل ) يقول تعالى ذكره : وأرسل عليهم ربك طيرا متفرقة ، يتبع بعضها بعضا من نواح شتى ; وهي جماع لا واحد لها ، مثل الشماطيط والعباديد ونحو ذلك . وزعم أبو عبيدة معمر بن المثنى ، أنه لم ير أحدا يجعل لها واحدا . وقال الفراء : لم أسمع من العرب في توحيدها شيئا . قال : وزعم أبو جعفر الرؤاسي ، وكان ثقة ، أنه سمع أن واحدها : إبالة . وكان الكسائي يقول : سمعت النحويين يقولون : إبول ، مثل العجول . قال : وقد سمعت بعض النحويين يقول : واحدها : أبيل .
وبنحو الذي قلنا في الأبابيل : قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا سوار بن عبد الله ، قال : ثنا يحيى بن سعيد ، قال : ثنا حماد بن سلمة ، عن عاصم ابن بهدلة ، عن زر ، عن عبد الله ، في قوله : ( طيرا أبابيل ) قال : فرق . [ ص: 606 ]
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا يحيى وعبد الرحمن ، قالا ثنا حماد بن سلمة ، عن عاصم ، عن زر ، عن عبد الله ، قال : الفرق .
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، في قوله : ( طيرا أبابيل ) قال : يتبع بعضها بعضا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( وأرسل عليهم طيرا أبابيل ) قال : هي التي يتبع بعضها بعضا .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثني عبد الأعلى ، قال : ثنا داود ، عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث بن نوفل ، أنه قال في : ( طيرا أبابيل ) قال : هي الأقاطيع ، كالإبل المؤبلة .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب القمي ، عن جعفر ، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى ( طيرا أبابيل ) قال : متفرقة .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا وكيع ، قال : ثنا الفضل ، عن الحسن ( طيرا أبابيل ) قال : الكثيرة .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن ابن سابط ، عن أبي سلمة ، قالا الأبابيل : الزمر .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : ( أبابيل ) قال : هي شتى متتابعة مجتمعة .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قال : الأبابيل : الكثيرة .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة قال : الأبابيل : الكثيرة .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( طيرا أبابيل ) يقول : متتابعة . بعضها على أثر بعض .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ; في قوله : ( طيرا أبابيل ) قال : الأبابيل : المختلفة ، تأتي من هاهنا ، وتأتي من هاهنا ، أتتهم من كل مكان .
وذكر أنها كانت طيرا أخرجت من البحر . وقال بعضهم : جاءت من قبل البحر .
ثم اختلفوا في صفتها ، فقال بعضهم : كانت بيضاء . [ ص: 607 ]
وقال آخرون : كانت سوداء .
وقال آخرون : كانت خضراء ، لها خراطيم كخراطيم الطير ، وأكف كأكف الكلاب .
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن ابن عون ، عن محمد بن سيرين ، في قوله : ( طيرا أبابيل ) قال : قال ابن عباس : هي طير ، وكانت طيرا لها خراطيم كخراطيم الطير ، وأكف كأكف الكلاب .
حدثني الحسن بن خلف الواسطي ، قال : ثنا وكيع وروح بن عبادة ، عن ابن عون ، عن ابن سيرين عن ابن عباس ، مثله .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا وكيع ، عن ابن عون ، عن ابن عباس ، نحوه .
حدثنا يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا حسين ، عن عكرمة ، في قوله : ( طيرا أبابيل ) قال : كانت طيرا خرجت خضرا ، خرجت من البحر ، لها رءوس كرءوس السباع .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن عبيد بن عمير ( طيرا أبابيل ) قال : هي طير سود بحرية ، في مناقرها وأظفارها الحجارة .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن عبيد بن عمير : ( طيرا أبابيل ) قال : سود بحرية ، في أظافيرها ومناقيرها الحجارة .
قال : ثنا مهران ، عن خارجة ، عن عبد الله بن عون ، عن ابن سيرين ، عن ابن عباس قال : لها خراطيم كخراطيم الطير ، وأكف كأكف الكلاب .
حدثنا يحيى بن طلحة اليربوعي ، قال : ثنا فضيل بن عياض ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : ( طيرا أبابيل ) قال : طير خضر ، لها مناقير صفر ، تختلف عليهم .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا وكيع ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن عبيد بن عمير ، قال : طير سود تحمل الحجارة في أظافيرها ومناقيرها .
وقوله : ( ترميهم بحجارة من سجيل )
يقول تعالى ذكره : ترمي هذه الطير الأبابيل التي أرسلها الله على أصحاب الفيل ، بحجارة من سجيل .
وقد بينا معنى سجيل في موضع غير هذا ، غير أنا نذكر بعض ما قيل من ذلك في هذا الموضع ، من أقوال من لم نذكره في ذلك الموضع . [ ص: 608 ]
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن السدي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ( حجارة من سجيل ) قال : طين في حجارة .
حدثني الحسين بن محمد الذارع ، قال : ثنا يزيد بن زريع ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ( ترميهم بحجارة من سجيل ) قال : من طين .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن السدي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ( حجارة من سجيل ) قال : سنك وكل .
حدثني الحسين بن محمد الذارع ، قال : ثنا يزيد بن زريع ، عن عمارة بن أبي حفصة ، عن عكرمة ، في قوله : ( ترميهم بحجارة من سجيل ) قال : من طين .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن شرقي ، قال : سمعت عكرمة يقول : ( ترميهم بحجارة من سجيل ) قال : سنك وكل .
حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن عكرمة ، قال : كانت ترميهم بحجارة معها ، قال : فإذا أصاب أحدهم خرج به الجدري ، قال : كان أول يوم رؤى فيه الجدري ; قال : لم ير قبل ذلك اليوم ، ولا بعده .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن موسى بن أبي عائشة ، قال : ذكر أبو الكنود ، قال : دون الحمصة وفوق العدسة .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا سفيان ، عن موسى بن أبي عائشة ، قال : كانت الحجارة التي رموا بها أكبر من العدسة ; وأصغر من الحمصة .
قال : ثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : ثنا إسرائيل ، عن موسى بن أبي عائشة ، عن عمران ، مثله .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا وكيع ، عن سفيان ، عن السدي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : سجيل بالفارسية : سنك وكل ، حجر وطين .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن جابر بن سابط ، قال : هي بالأعجمية : سنك وكل .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كانت مع كل طير ثلاثة أحجار : حجران في رجليه ، وحجر في منقاره ، فجعلت ترميهم بها . [ ص: 609 ]
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( حجارة من سجيل ) قال : هي من طين .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : هي طير بيض ، خرجت من قبل البحر ، مع كل طير ثلاثة أحجار : حجران في رجليه ، وحجر في منقاره ، ولا يصيب شيئا إلا هشمه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرنا عمرو بن الحارث بن يعقوب أن أباه أخبره أنه بلغه أن الطير التي رمت بالحجارة كانت تحملها بأفواهها ، ثم إذا ألقتها نفط لها الجلد .
وقال آخرون : معنى ذلك : ترميهم بحجارة من سماء الدنيا .
ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( ترميهم بحجارة من سجيل ) قال : السماء الدنيا ، قال : والسماء الدنيا اسمها سجيل ، وهي التي أنزل الله جل وعز على قوم لوط .
قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرنا عمرو بن الحارث ، عن سعيد بن أبي هلال ، أنه بلغه أن الطير التي رمت بالحجارة أنها طير تخرج من البحر ، وأن سجيلا : السماء الدنيا . وهذا القول الذي قاله ابن زيد لا نعرف لصحته وجها في خبر ولا عقل ، ولا لغة ، وأسماء الأشياء لا تدرك إلا من لغة سائرة ، أو خبر من الله تعالى ذكره .
كان السبب الذي من أجله حلت عقوبة الله تعالى بأصحاب الفيل ، مسير أبرهة الحبشي بجنده معه الفيل ، إلى بيت الله الحرام لتخريبه .
وكان الذي دعاه إلى ذلك فيما حدثنا به ابن حميد ، قال : ثنا سلمة بن الفضل ، قال : ثنا ابن إسحاق ، أن أبرهة بنى كنيسة بصنعاء ، وكان نصرانيا ، فسماها القليس ; لم ير مثلها في زمانها بشيء من الأرض ; وكتب إلى النجاشي ملك الحبشة : إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك ، ولست بمنته حتى أصرف إليها حاج العرب . فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة ذلك للنجاشي ، غضب رجل من النسأة أحد بني فقيم ، ثم أحد بني مالك ، فخرج حتى أتى القليس ، [ ص: 610 ] فقعد فيها ، ثم خرج فلحق بأرضه ، فأخبر أبرهة بذلك ، فقال : من صنع هذا ؟ فقيل : صنعه رجل من أهل هذا البيت ، الذي تحج العرب إليه بمكة ، لما سمع من قولك : أصرف إليه حاج العرب ، فغضب ، فجاء فقعد فيها ؛ أي : أنها ليست لذلك بأهل ; فغضب عند ذلك أبرهة ، وحلف ليسيرن إلى البيت فيهدمه ، وعند أبرهة رجال من العرب قد قدموا عليه يلتمسون فضله ، منهم محمد بن خزاعي بن حزابة الذكواني ، ثم السلمي ، في نفر من قومه ، معه أخ له يقال له قيس بن خزاعي ; فبينما هم عنده ، غشيهم عبد لأبرهة ، فبعث إليهم فيه بغذائه ، وكان يأكل الخصى ; فلما أتى القوم بغذائه ، قالوا : والله لئن أكلنا هذا لا تزال تسبنا به العرب ما بقينا ، فقام محمد بن خزاعي ، فجاء أبرهة فقال : أيها الملك ، إن هذا يوم عيد لنا ، لا نأكل فيه إلا الجنوب والأيدي ، فقال له أبرهة : فسنبعث إليكم ما أحببتم ، فإنما أكرمتكم بغذائي ، لمنزلتكم عندي .
ثم إن أبرهة توج محمد بن خزاعي ، وأمره على مضر ، وأمره أن يسير في الناس ، يدعوهم إلى حج القليس ، كنيسته التي بناها ، فسار محمد بن خزاعي ، حتى إذا نزل ببعض أرض بني كنانة ، وقد بلغ أهل تهامة أمره ، وما جاء له ، بعثوا إليه رجلا من هذيل يقال له عروة بن حياض الملاصي ، فرماه بسهم فقتله ; وكان مع محمد بن خزاعي أخوه قيس بن خزاعي ، فهرب حين قتل أخوه ، فلحق بأبرهة فأخبره بقتله ، فزاد ذلك أبرهة غضبا وحنقا ، وحلف ليغزون بني كنانة ، وليهدمن البيت .
ثم إن أبرهة حين أجمع السير إلى البيت ، أمر الحبشان فتهيأت وتجهزت ، وخرج معه بالفيل ، وسمعت العرب بذلك ، فأعظموه ، وفظعوا به ، ورأوا جهاده حقا عليهم ، حين سمعوا أنه يريد هدم الكعبة ، بيت الله الحرام ، فخرج رجل كان من أشراف أهل اليمن وملوكهم ، يقال له ذو نفر ، فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب ، إلى حرب أبرهة ، وجهاده عن بيت الله ، وما يريد من هدمه وإخرابه ، فأجابه من أجابه إلى ذلك ، وعرض له ، وقاتله ، فهزم وتفرق أصحابه ، وأخذ له ذو نفر أسيرا ; فلما أراد قتله ، قال ذو نفر : أيها الملك لا تقتلني ، فإنه عسى أن يكون بقائي معك خيرا لك من قتلي ; فتركه من القتل ، وحبسه عنده في وثاق . وكان أبرهة رجلا حليما .
ثم مضى أبرهة على وجهه ذلك يريد ما خرج له ، حتى إذا كان بأرض خثعم ، عرض له نفيل بن حبيب الخثعمي في قبيلتي خثعم : شهران ، وناهس ، ومن معه [ ص: 611 ] من قبائل العرب ، فقاتله فهزمه أبرهة ، وأخذ له أسيرا ، فأتي به ; فلما هم بقتله ، قال له نفيل : أيها الملك لا تقتلني ، فإني دليلك بأرض العرب ، وهاتان يداي لك على قبيلتي خثعم : شهران ، وناهس ، بالسمع والطاعة ; فأعفاه وخلى سبيله ، وخرج به معه ، يدله على الطريق ; حتى إذا مر بالطائف ، خرج إليه مسعود بن معتب في رجال ثقيف ، فقال : أيها الملك ، إنما نحن عبيدك ، سامعون لك مطيعون ، ليس لك عندنا خلاف ، وليس بيتنا هذا بالبيت الذي تريد – يعنون اللات – إنما تريد البيت الذي بمكة – يعنون الكعبة – ونحن نبعث معك من يدلك ، فتجاوز عنهم ، وبعثوا معهم أبا رغال ; فخرج أبرهة ومعه أبو رغال حتى أنزله المغمس ، فلما أنزله به مات أبو رغال هناك ، فرجمت العرب قبره ، فهو القبر الذي ترجم الناس بالمغمس .
ولما نزل أبرهة المغمس ، بعث رجلا من الحبشة ، يقال له الأسود بن مقصود ، على خيل له حتى انتهى إلى مكة ، فساق إليه أموال أهل مكة من قريش وغيرهم ، وأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم ، وهو يومئذ كبير قريش وسيدها ; وهمت قريش وكنانة وهذيل ومن كان معهم بالحرم من سائر الناس بقتاله ، ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به ، فتركوا ذلك ، وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة ، وقال له : سل عن سيد هذا البلد وشريفهم ، ثم قل له : إن الملك يقول لكم : إني لم آت لحربكم ، إنما جئت لهدم البيت ، فإن لم تعرضوا دونه بحرب فلا حاجة لي بدمائكم ، فإن لم يرد حربي فأتني به .
فلما دخل حناطة مكة ، سأل عن سيد قريش وشريفها ، فقيل : عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي ، فجاءه فقال له ما أمره به أبرهة ، قال له عبد المطلب : والله ما نريد حربه ، وما لنا بذلك من طاقة ; هذا بيت الله الحرام ، وبيت خليله إبراهيم عليه السلام – أو كما قال – فإن يمنعه فهو بيته وحرمه ، وإن يخل بينه وبينه ، فوالله ما عندنا له من دافع عنه ، أو كما قال ; فقال له حناطة : فانطلق إلى الملك ، فإنه قد أمرني أن آتيه بك . فانطلق معه عبد المطلب ، ومعه بعض بنيه ، حتى أتى العسكر ، فسأل عن ذي نفر ، وكان له صديقا ، فدل عليه ، فجاءه وهو في محبسه ، فقال : يا ذا نفر ، هل عندك غناء فيما نزل بنا ؟ فقال له ذو نفر ، وكان له صديقا : وما غناء رجل أسير في يدي ملك ، ينتظر أن يقتله غدوا أو عشيا! ما عندي [ ص: 612 ] غناء في شيء مما نزل بك ، إلا أن أنيسا سائق الفيل لي صديق ، فسأرسل إليه ، فأوصيه بك ، وأعظم عليه حقك ، وأسأله أن يستأذن لك على الملك ، فتكلمه بما تريد ، ويشفع لك عنده بخير ، إن قدر على ذلك . قال : حسبي ، فبعث ذو نفر إلى أنيس ، فجاء به ، فقال : يا أنيس إن عبد المطلب سيد قريش ، وصاحب عير مكة ، يطعم الناس بالسهل ، والوحوش في رءوس الجبال ، وقد أصاب الملك له مائتي بعير ، فاستأذن له عليه ، وانفعه عنده بما استطعت ، فقال : أفعل .
فكلم أنيس أبرهة ، فقال : أيها الملك ، هذا سيد قريش ببابك ، يستأذن عليك ، وهو صاحب عير مكة ، يطعم الناس بالسهل ، والوحوش في رءوس الجبال ، فأذن له عليك ، فليكلمك بحاجته ، وأحسن إليه . قال : فأذن له أبرهة ، وكان عبد المطلب رجلا عظيما وسيما جسيما ; فلما رآه أبرهة أجله وأكرمه أن يجلس تحته ، وكره أن تراه الحبشة يجلسه معه على سرير ملكه ، فنزل أبرهة عن سريره ، فجلس على بساطه ، فأجلسه معه عليه إلى جنبه ، ثم قال لترجمانه : قل له ما حاجتك إلى الملك ؟ فقال له ذلك الترجمان ، فقال له عبد المطلب : حاجتي إلى الملك أن يرد علي مائتي بعير أصابها لي ; فلما قال له ذلك ، قال أبرهة لترجمانه : قل له : قد كنت أعجبتني حين رأيتك ، ثم زهدت فيك حين كلمتني ، أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك ، وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك ، قد جئت لهدمه فلا تكلمني فيه ؟ قال له عبد المطلب : إني أنا رب الإبل ، وإن للبيت ربا سيمنعه ، قال : ما كان ليمنع مني ، قال : فأنت وذاك ، اردد إلي إبلي .
وكان فيما زعم بعض أهل العلم قد ذهب مع عبد المطلب إلى أبرهة ، حين بعث إليه حناطة ، يعمر بن نفاثة بن عدي بن الديل بن بكر بن عبد مناف بن كنانة ، وهو يومئذ سيد بني كنانة ، وخويلد بن واثلة الهذلي وهو يومئذ سيد هذيل ، فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة ، على أن يرجع عنهم ، ولا يهدم البيت ، فأبى عليهم ، والله أعلم .
وكان أبرهة ، قد رد على عبد المطلب الإبل التي أصاب له ، فلما انصرفوا عنه انصرف عبد المطلب إلى قريش ، فأخبرهم الخبر ، وأمرهم بالخروج من مكة ، والتحرز في شعف الجبال والشعاب ، تخوفا عليهم من معرة الجيش ; ثم قام عبد المطلب ، فأخذ بحلقة الباب ، باب الكعبة ، وقام معه نفر من قريش يدعون الله ، ويستنصرونه على [ ص: 613 ] أبرهة وجنده ، فقال عبد المطلب ، وهو آخذ حلقة باب الكعبة :
يا رب لا أرجو لهم سواكا يا رب فامنع منهم حماكا إن عدو البيت من عاداكا
امنعهم أن يخربوا قراكا
وقال أيضا :
لاهم إن العبد يم نع رحله فامنع حلالك
لا يغلبن صليبهم ومحالهم غدوا محالك
فلئن فعلت فربما أولى فأمر ما بدا لك
ولئن فعلت فإنه أمر تتم به فعالك
وقال أيضا :
وكنت إذا أتى باغ بسلم نرجي أن تكون لنا كذلك
فولوا لم ينالوا غير خزي وكان الحين يهلكهم هنالك
ولم أسمع بأرجس من رجال أرادوا العز فانتهكوا حرامك
جروا جموع بلادهم والفيل كي يسبوا عيالك
[ ص: 614 ]
ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة ، وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف الجبال ، فتحرزوا فيها ، ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها ; فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة ، وهيأ فيله ، وعبأ جيشه ، وكان اسم الفيل محمودا ، وأبرهة مجمع لهدم البيت ، ثم الانصراف إلى اليمن . فلما وجهوا الفيل ، أقبل نفيل بن حبيب الخثعمي ، حتى قام إلى جنبه ، ثم أخذ بأذنه فقال : ابرك محمود ، وارجع راشدا من حيث جئت ، فإنك في بلد الله الحرام ; ثم أرسل أذنه ، فبرك الفيل ، وخرج نفيل بن حبيب يشتد حتى أصعد في الجبل . وضربوا الفيل ليقوم فأبى ، وضربوا في رأسه بالطبرزين ليقوم ، فأبى ، فأدخلوا محاجن لهم في مراقه ، فبزغوه بها ليقوم ، فأبى ، فوجهوه راجعا إلى اليمن ، فقام يهرول ، ووجهوه إلى الشام ، ففعل مثل ذلك ، ووجهوه إلى المشرق ، ففعل مثل ذلك ، ووجهوه إلى مكة فبرك ، وأرسل الله عليهم طيرا من البحر ، أمثال الخطاطيف ، مع كل طير ثلاثة أحجار يحملها : حجر في منقاره ، وحجران في رجليه مثل الحمص والعدس ، لا يصيب منهم أحدا إلا هلك ، وليس كلهم أصابت ، وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذي منه جاءوا ، ويسألون عن نفيل بن حبيب ، ليدلهم على الطريق إلى اليمن ، فقال نفيل بن حبيب حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمته :
أين المفر والإله الطالب والأشرم المغلوب غير الغالب
فخرجوا يتساقطون بكل طريق ، ويهلكون على كل منهل ، فأصيب أبرهة في جسده ، وخرجوا به معهم ، فسقطت أنامله أنملة أنملة ، كلما سقطت أنملة أتبعتها مدة تمث قيحا ودما ، حتى قدموا به صنعاء ، وهو مثل فرخ الطير ، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه فيما يزعمون .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن يعقوب بن عتبة [ ص: 615 ] بن المغيرة بن الأخنس ، أنه حدث أن أول ما رئيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام ، وأنه أول ما رئي بها مرار الشجر : الحرمل والحنظل والعشر ذلك العام .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ) أقبل أبرهة الأشرم من الحبشة يوما ومن معه من عداد أهل اليمن ، إلى بيت الله ليهدمه من أجل بيعة لهم أصابها العرب بأرض اليمن ، فأقبلوا بفيلهم ، حتى إذا كانوا بالصفاح برك ; فكانوا إذا وجهوه إلى بيت الله ألقى بجرانه على الأرض ، وإذا وجهوه إلى بلدهم انطلق وله هرولة ، حتى إذا كان بنخلة اليمانية بعث الله عليهم طيرا بيضا أبابيل . والأبابيل : الكثيرة ، مع كل طير ثلاثة أحجار : حجران في رجليه ، وحجر في منقاره ، فجعلت ترميهم بها حتى جعلهم الله عز وجل كعصف مأكول ; قال : فنجا أبو يكسوم وهو أبرهة ، فجعل كلما قدم أرضا تساقط بعض لحمه ، حتى أتى قومه ، فأخبرهم الخبر ثم هلك .
وقوله : ( فجعلهم كعصف مأكول )
يعني تعالى ذكره : فجعل الله أصحاب الفيل كزرع أكلته الدواب فراثته ، فيبس وتفرقت أجزاؤه ; شبه تقطع أوصالهم بالعقوبة التي نزلت بهم ، وتفرق آراب أبدانهم بها ، بتفرق أجزاء الروث ، الذي حدث عن أكل الزرع .
وقد كان بعضهم يقول : العصف : هو القشر الخارج الذي يكون على حب الحنطة من خارج ، كهيئة الغلاف لها .
ذكر من قال عني بذلك ورق الزرع :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( كعصف مأكول ) قال : ورق الحنطة .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( كعصف مأكول ) قال : هو التبن .
وحدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( كعصف مأكول ) : كزرع مأكول .
حدثني محمد بن عمارة الأسدي ، قال : ثنا زريق بن مرزوق ، قال : ثنا هبيرة ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك ، في قوله ( كعصف مأكول ) قال : [ ص: 616 ] هو الهبور بالنبطية ، وفي رواية : المقهور .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( فجعلهم كعصف مأكول ) قال : ورق الزرع وورق البقل ، إذا أكلته البهائم فراثته ، فصار روثا .
ذكر من قال : عني به قشر الحب .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ( كعصف مأكول ) قال : البر يؤكل ويلقى عصفه الريح ، والعصف : الذي يكون فوق البر : هو لحاء البر .
وقال آخرون في ذلك بما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن أبي سنان ، عن حبيب بن أبي ثابت : ( كعصف مأكول ) قال : كطعام مطعوم .
آخر تفسير سورة الفيل