هو محمد (ابن عبد الله) ومعنى عبد الله: الخاضع الذليل له تعالى. وقد جاء «أحب أسمائكم» وفي رواية: «أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن» وجاء «أحب الأسماء إلى الله ما تعبد به» وقد سمي بعبد الله في القرآن، قال الله تعالى: {وأنه لما قام عبد الله يدعوه} وعبد الله هذا هو (ابن عبد المطلب) ويدعى شيبة الحمد لكثرة حمد الناس له: أي لأنه كان مفزع قريش في النوائب وملجأهم في الأمور، فكان شريف قريش وسيدها كمالا وفعالا من غير مدافع. وقيل: قيل له شيبة الحمد لأنه ولد وفي رأسه شيبة: أي وفي لفظ كان وسط رأسه أبيض، أو سمي بذلك تفاؤلا بأنه سيبلغ سن الشيب ( ) قيل اسمه عامر، وعاش مائة وأربعين سنة: أي وكان ممن حرم الخمر على نفسه في الجاهلية ( ) وكان مجاب الدعوة، وكان يقال له الفياض لجوده، ومطعم طير السماء لأنه كان يرفع من مائدته للطير والوحوش في رؤوس الجبال. قال: وكان من حلماء قريش وحكمائها، وكان نديمه حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف والد أبي سفيان، وكان في جوار عبد المطلب يهودي فأغلظ ذلك اليهودي القول على حرب في سوق من أسواق تهامة، فأغرى عليه حرب من قتله، فلما علم عبد المطلب بذلك ترك منادمة حرب، ولم يفارقه حتى أخذ منه مائة ناقة دفعها لابن عم اليهودي حفظا لجواره، ثم نادم عبد الله بن جدعان انتهى ملخصا.
وقيل له عبد المطلب، لأن عمه المطلب لما جاء به صغيرا من المدينة أردفه خلفه: أي وكان بهيئة رثة: أي ثياب خلقة، فصار كل من يسأل عنه ويقول من هذا؟ يقول عبدي أي حياء أن يقول ابن أخي، فلما دخل مكة أحسن من حاله وأظهر أنه ابن أخيه وصار يقول لمن يقول له عبد المطلب: ويحكم إنما هو شيبة ابن أخي هاشم ( ) لكن غلب عليه الوصف المذكور فقيل له عبد المطلب: أي وقيل لأنه تربى في حجر عمه المطلب، وكان عادة العرب أن تقول لليتيم الذي يتربى في حجر أحد هو عبده وكان عبد المطلب يأمر أولاده بترك الظلم والبغي، ويحثهم على مكارم الأخلاق، وينهاهم عن دنيئات الأمور.
وكان يقول: لن يخرج من الدنيا ظلوم حتى ينتقم منه وتصيبهم عقوبة إلى أن هلك رجل ظلوم من أهل الشام لم تصبه عقوبة، فقيل لعبد المطلب في ذلك، ففكر وقال: والله إن وراء هذه الدار دارا يجزى فيها المحسن بإحسانه، ويعاقب المسيء بإساءته: أي فالمظلوم شأنه في الدنيا ذلك، حتى إذا خرج من الدنيا ولم تصبه العقوبة فهي معدة له في الآخرة، ورفض في آخر عمره عبادة الأصنام، ووحد الله سبحانه وتعالى. وتؤثر عنه سنن جاء القرآن بأكثرها، وجاءت السنة بها: منها الوفاء بالنذر، والمنع من نكاح المحارم، وقطع يد السارق، والنهي عن قتل الموءودة، وتحريم الخمر والزنا، وأن لا يطوف بالبيت عريان، كذا في كلام سبط ابن الجوزي. (ابن هاشم) وهاشم: هو عمرو العلا أي لعلو مرتبته، وهو أخو عبد شمس وكانا توأمين، وكانت رجل هاشم أي أصبعها ملصقة بجبهة عبد شمس، ولم يكن نزعها إلا بسيلان دم، فكانوا يقولون سيكون بينهما دم، فكان بين ولديهما أي بين بني العباس وبين بني أمية سنة ثلاث وثلاثين ومائة من الهجرة، ووقعت العداوة بين هاشم وبين ابن أخيه أمية بن عبد شمس، لأن هاشما لما ساد قومه بعد أبيه عبد مناف حسده أمية ابن أخيه، فتكلف أن يصنع كما يصنع هاشم فعجز، فعيرته قريش وقالوا له أتتشبه بهاشم، ثم دعا هاشما للمنافرة فأبى هاشم ذلك لسنه وعلو قدره، فلم تدعه قريش، فقال هاشم لأمية: أنافرك على خمسين ناقة سود الحدق تنحر بمكة، والجلاء عن مكة عشر سنين، فرضي أمية بذلك، وجعلا بينهما الكاهن الخزاعي وكان بعسفان، فخرج كل منهما في نفر، فنزلوا على الكاهن، فقال قبل أن يخبروه خبرهم «والقمر الباهر» والكوكب الزاهر، والغمام الماطر، وما بالجو من طائر، وما اهتدى بعلم مسافر، من منجد وغائر، لقد سبق هاشم أمية إلى المفاخر، فنصر هاشم على أمية، فعاد هاشم إلى مكة ونحر الإبل، وأطعم الناس، وخرج أمية إلى الشام فأقام بها عشر سنين، فكانت هذه أول عداوة وقعت بين هاشم وأمية، وتوارث ذلك بنوهما، وكان يقال لهاشم وإخوته عبد شمس والمطلب ونوفل أقداح النضار: أي الذهب، ويقال لهم المجيرون لكرمهم وفخرهم وسيادتهم على سائر العرب.
قال بعضهم: ولا يعرف بنو أب تباينوا في محالّ موتهم مثلهم، فإن هاشما مات بغزة: أي كما سيأتي، وعبد شمس مات بمكة، وقبره بأجياد، ونوفلا مات بالعراق، والمطلب مات ببرعاء من أرض اليمن: أي وقيل له هاشم، لأنه أول من هشم الثريد بعد جده إبراهيم، فإن ابراهيم أول من فعل ذلك: أي ثرد الثريد وأطعمه المساكين () وفيه أن أول من ثرد الثريد، وأطعمه بمكة بعد إبراهيم جد هاشم قصي. ففي الإمتاع: وقصي أول من ثرد الثريد وأطعمه بمكة. وفيه أيضا هاشم عمرو العلا، أول من أطعم الثريد بمكة، وسيأتي أن أول من فعل ذلك عمرو بن لحي، فليتأمل.
وقد يقال: لا منافاة لأن الأولية في ذلك إضافية، فأولية قصي لكونه من قريش وأولية عمرو بن لحي لكونه من خزاعة، وأولية هاشم باعتبار شدة مجاعة حصلت لقريش وإلى ذلك يشير صاحب الأصل بقوله:
وأطعم في المحل عمرو العلا ** فللمسنتين به خصب عام
وقال أيضا:
عمرو العلا ذو الندى من لا يسابقه ** مر السحاب ولا ريح تجاريه
جفانه كالجوابي للوفود إذا ** لبوا بمكة ناداهم مناديه
أو أمحلوا أخصبوا منها وقد ملئت ** قوتا لحاضره منهم وباديه
وقد قيل فيه:
قل للذي طلب السماحة والندى ** هلا مررت بآل عبد مناف
الرائشون وليس يوجد رائش ** والقائلون هلمّ للأضياف
وعن بعض الصحابة قال: رأيت رسول الله ﷺ وأبا بكر على باب بني شيبة فمر رجل وهو يقول:
يا أيها الرجل المحوّل رحله ** ألا نزلت بآل عبد الدار
هبلتك أمك، لو نزلت برحلهم ** منعوك من عدم ومن إقتار
فالتفت رسول الله ﷺ إلى أبي بكر فقال: أهكذا قال الشاعر؟ قال: لا والذي بعثك بالحق، ولكنه قال:
يا أيها الرجل المحول رحله ** ألا نزلت بآل عبد مناف
هبلتك أمك لو نزلت برحلهم ** منعوك من عدم ومن اقراف
الخالطين غنيهم بفقيرهم ** حتى يعود فقيرهم كالكافي
فتبسم رسول الله ﷺ وقال: هكذا سمعت الرواة ينشدونه، وكان هاشم بعد أبيه عبد مناف على السقاية والرفادة، فكان يعمل الطعام للحجاج، يأكل منه من لم يكن له سعة ولا زاد، ويقال لذلك الرفادة.
واتفق أنه أصاب الناس سنة جدب شديد فخرج هاشم إلى الشام، وقيل بلغه ذلك وهو بغزة من الشام، فاشترى دقيقا وكعكا وقدم به مكة في الموسم، فهشم الخبز والكعك ونحر الجزر وجعله ثريدا، وأطعم الناس حتى أشبعهم، فسمي بذلك هاشما. وكان يقال له أبو البطحاء وسيد البطحاء.
قال بعضهم: لم تزل مائدته منصوبة لا ترفع في السراء والضراء.
قال ابن الصلاح: روينا عن الإمام سهل الصعلوكي أنه قال في قوله: «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» أراد فضل ثريد عمرو العلا، الذي عظم نفعه وقدره، وعم خيره وبره، وبقي له ولعقبه ذكره. وقد أبعد سهل في تأويل الحديث. والذي أراه أن معناه تفضيل الثريد من الطعام على باقي الطعام، لأن سائر بمعنى باقي أي فالمراد أي ثريد لا خصوص ثريد عمرو العلا حتى يكون أفضل من ثريد غيره. وكان هاشم يحمل ابن السبيل، ويؤمن الخائف.
قال: وقد ذكر أنه كان إذا هل هلال ذي الحجة قام صبيحته وأسند ظهره إلى الكعبة من تلقاء بابها ويخطب يقول في خطبته: يا معشر قريش إنكم سادة العرب، أحسنها وجوها، وأعظمها أحلاما أي عقولا، وأوسط العرب: أي أشرفها أنسابا، وأقرب العرب بالعرب أرحاما. يا معشر قريش إنكم جيران بيت الله تعالى، أكرمكم الله تعالى بولايته، وخصكم بجواره دون بني إسماعيل، وإنه يأتيكم زوار الله يعظمون بيته فهم أضيافه وأحق من أكرم أضياف الله أنتم فأكرموا ضيفه وزواره، فإنهم يأتون شعثا غبرا من كل بلد على ضوامر كالقداح فأكرموا ضيفه وزوار بيته، فورب هذه البنية لو كان لي مال يحتمل ذلك لكفيتكموه، وأنا مخرج من طيب مالي وحلاله ما لم يقطع فيه رحم، ولم يؤخذ بظلم، ولم يدخل فيه حرام؟ فمن شاء منكم أن يفعل مثل ذلك فعل، وأسألكم بحرمة هذا البيت أن لا يخرج رجل منكم من ماله لكرامة زوار بيت الله وتقويتهم إلا طيبا، لم يؤخذ ظلما، ولم يقطع فيه رحم، ولم يؤخذ غصبا، فكانوا يجتهدون في ذلك، ويخرجونه من أموالهم فيضعونه في دار الندوة انتهى.
وقيل في تسمية شيبة الحمد عبد المطلب غير ما تقدم. فقد قيل: إنما سمي شيبة الحمد عبد المطلب، لأن أباه هاشما قال للمطلب الذي هو أخو هاشم وهو بمكة حين حضرته الوفاة أدرك عبدك يعني شيبة الحمد بيثرب، فمن ثم سمي عبد المطلب كذا في المواهب وقدمه على ما تقدم.
وفيه أنه حكى غير واحد أن هاشما خرج تاجرا إلى الشام، فنزل على شخص من بني النجار بالمدينة وتزوج بنته على شرط أنها لا تلد ولدا إلا في أهلها: أي ثم مضى لوجهه قبل أن يدخل بها ثم انصرف راجعا فبنى بها في أهلها ثم ارتحل بها إلى مكة، فلما أثقلت بالحمل خرج بها فوضعها عند أهلها بالمدينة ومضى إلى الشام فمات بغزة، قيل وعمره حينئذ عشرون سنة، وقيل أربع، وقيل خمس وعشرون. وولدت شيبة الحمد فمكث بالمدينة سبع سنين وقيل ثمان، فمر رجل على غلمان يلعبون أي ينتضلون بالسهام وإذا غلام فيهم إذا أصاب قال أنا ابن سيد البطحاء، فقال له الرجل: ممن أنت يا غلام؟ فقال أنا شيبة بن هاشم بن عبد مناف، فلما قدم الرجل مكة وجد المطلب جالسا بالحجر فقص عليه ما رأى، فذهب إلى المدينة، فلما رآه عرف شبه أبيه فيه ففاضت عيناه وضمه إليه خفية من أمه.
وفي لفظ أنه عرفه بالشبه وقال لمن كان يلعب معه: أهذا ابن هاشم؟ قالوا نعم، فعرفهم أنه عمه، فقالوا له: إن كنت تريد أخذه فالساعة قبل أن تعلم به أمه، فإنها إن علمت بك لم تدعك وحالت بينك وبينه، فدعاه المطلب وقال يا ابن أخي أنا عمك وقد أردت الذهاب بك إلى قومك، وأناخ ناقته فجلس على عجز الناقة، فانطلق به ولم تعلم به أمه حتى كان الليل فقامت تدعوه، فأخبرت أن عمه قد ذهب به وكساه حلة يمانية، ثم قدم به مكة، فقالت قريش: هذا عبد المطلب: أي فإن هذا السياق يدل على أن عبد المطلب إنما ولد بعد موت أبيه هاشم بغزة، وكون عمه المطلب كساه حلة لا ينافي ما سبق أنه دخل به مكة وثيابه رثة خلقة، لأنه يجوز أن تكون هذه الحلة ألبست له عند أخذه ثم نزعت عنه في السفر: أي أو أن هذه الحلة اشتراها بمكة كما يصرح به كلام بعضهم. وما وقع هنا من تصرف الراوي على أنه يجوز أن يكون اشترى له حلتين واحدة ألبسها له بالمدينة وأخرى اشتراها بمكة وألبسها له( ).
وفي السيرة الهشامية أن أم عبد المطلب كانت لا تنكح الرجال لشرفها في قومها حتى يشرطوا لها أن أمرها بيدها إذا كرهت رجلا فارقته: أي وإنها لا تلد ولدا إلا في أهلها كما تقدم، وأن عمه المطلب لما جاءه لأخذه قالت له لست بمرسلته معك، فقال لها المطلب: إني غير منصرف حتى أخرج به معي، إن ابن أخي قد بلغ وهو غريب في غير قومه، ونحن أهل بيت شرف في قومنا، وقومه وعشيرته وبلده خير من الإقامة في غيرهم، فقال شيبة لعمه: إني لست بمفارقها إلا أن تأذن لي، فأذنت له ودفعته إليه، فأردفه خلفه على بعيره. ويحتاج إلى الجمع بين هذا وما قبله، فقالت قريش عبد المطلب ابتاعه: أي ظنا منهم أنه اشتراه من المدينة فإن الشمس أثرت فيه وعليه ثياب أخلاق، فقال لهم: ويحكم إنما هو ابن أخي هاشم. ولا يخالف هذا ما سبق، من أنه صار يقول لمن يسأله عنه من هذا؟ فيقول عبدي، لأنه يجوز أن يكون بعض الناس قال من عند نفسه هذا عبد المطلب ظنا منه، وبعضهم سأله فأجابه بقوله هذا عبدي كما تقدم، ولما دخل مكة قال لهم ويحكم إلى آخره. وهاشم (بن عبد مناف) وعبد مناف اسمه المغيرة. أي وكان يقال له قمر البطحاء لحسنه وجماله، وهذا هو الجد الثالث لرسول الله، وهو الجد الرابع لعثمان بن عفان، والجد التاسع لإمامنا الشافعي .
ووجد كتاب في حجر: أنا المغيرة بن قصي، أوصي قريشا بتقوى الله جل وعلا، وصلة الرحم. ومناف أصله مناة اسم صنم كان أعظم أصنامهم، وكانت أمه جعلته خادما لذلك الصنم. وقيل وهبته له لأنه كان أول ولد لقصي على ما قيل، لأن عبد مناف بن قصي أي ويسمى قصي زيدا.
وعن إمامنا الشافعي أن اسمه يزيد، ويدعى مجمعا أيضا. وقيل له قصي لأنه قصي: أي بعد عن عشيرته إلى أخواله بني كلب في ناديهم. وقيل بعد إلى قضاعة مع أمه لأنها كانت منهم.
أقول: لا منافاة، لجواز أن تكون أم قصي من بني كلب وأبوها من قضاعة، وأنها رحلت بعد موت عبد مناف إلى بني كلب، ثم لما تزوجت من قضاعة رحلت إليها، ولعل قضاعة كانت جهة الشام، فلا يخالف ما قيل.
وقيل له قصي لأنه بعد مع أمه إلى الشام، لأن أمه تزوجت بعد موت أبيه وهو فطيم بشخص يقال له ربيعة بن حزام. وقيل حزام بن ربيعة العذري، فرحل بها إلى الشام وكان قصي لا يعرف له أبا إلا زوج أمه المذكور، فلما كبر وقع بينه وبين آل زوج أمه شر: أي فإنه ناضل رجلا منهم فنضله قصي أي غلبه، فغضب ذلك الرجل وعير قصيا بالغربة وقال له: ألا تلحق بقومك وببلادك فإنك لست منا.
وفي لفظ: لما قيل له ذلك، قال ممن أنا؟ قيل له سل أمك فشكا ذلك إلى أمه، فقالت له: بلادك خير من بلادهم، وقومك خير من قومهم، أنت أكرم أبا منهم، أنت ابن كلاب بن مرة، وقومك بمكة عند البيت الحرام تفد إليه العرب، وقد قالت لي كاهنة رأتك صغيرا إنك تلي أمرا جليلا، فلما أراد الخروج إلى مكة قالت له أمه: لا تعجل حتى يدخل الشهر الحرام فتخرج مع حجاج قضاعة، فإني أخاف عليك، فشخص مع الحجاج، فقدم قصي مكة على قومه مع حجاج قضاعة، فعرفوا له فضله وشرفه، فأكرموه وقدموه عليهم، فساد فيهم ثم تزوج بنت حليل بالحاء المهملة المضمومة الخزاعي وكان أمر مكة والبيت إليه، وهو آخر من ولي أمر البيت والحكم بمكة من خزاعة، فجاء منها بأولاده الآتي ذكرهم، فلما انتشر ولده وكثر ماله وعلم شرفه مات حليل، فرأى قصي أنه أولى بأمر مكة من خزاعة، لأن قريشا أقرب إلى إسماعيل من خزاعة، فدعا قريشا وبني كنانة إلى إخراج خزاعة من مكة فأجابوه إلى ذلك وانضم له قضاعة، جاء بهم أخو قصي لأمه فأزاح قصي يد خزاعة وولي أمر مكة.
وقيل إن حليلا جعل أمر البيت لقصي. ولا منافاة لجواز أن تكون خزاعة لم ترض بما فعله حليل من أن يكون أمر البيت لقصي فحاربهم وأخرجهم من مكة.
وقيل إن حليلا أوصى بذلك لأبي غبشان بضم الغين المعجمة بعد أن أوصى بذلك لابنته زوج قصي وقالت له لا قدرة لي على فتح البيت وإغلاقه، وأن قصيا أخذ ذلك منه بزق خمر، فقالت العرب: أخسر صفقة من أبي غبشان.
وقيل إن أبا غبشان أعطى ذلك لبنت حليل زوج قصي، وأعطاه قصي أثوابا وأبعرة، فكان أبو غبشان آخر من ملك أمر مكة والبيت من خزاعة.
ولا يخالف ذلك ما تقدم من أن حليلا آخر من ولي أمر البيت والحكم بمكة، لجواز أن يكون المراد آخر من ولي ذلك، واستمر كذلك إلى أن مات. قال بعضهم: وكان أبو غبشان خالا لقصي، وكان في عقله شيء، فخدعه قصي فاشترى منه أمر مكة والبيت بأذواد من الإبل.
والجمع بين هذه الروايات من أن قصيا أخذه من أبي غبشان بزق خمر، وبين أنه أخذ ذلك بأثواب وأبعرة، وبين أنه أخذ ذلك بأذواد من الإبل ممكن، لجواز أن يكون جمع بين الخمر والأثواب والإبل فوقع الاقتصار على بعضها من بعض الرواة تأمل. ثم جمع قصي قريشا بعد تفرقها في البلاد وجعلها اثنتي عشرة قبيلة كما سيأتي، ومن ثم قيل له مجمع. وفي كلام بعضهم: ولذلك سماه النبي ﷺ مجمعا، وإلى ذلك يشير قول الشاعر:
قصي لعمري كان يدعى مجمعا ** به جمع الله القبائل من فهر
وهذا البيت من قصيدة مدح بها عبد المطلب مدحه بها حذافة بن غانم، فإن ركبا من جذام فقدوا رجلا منهم غالته بيوت مكة، فلقوا حذافة فأخذوه فربطوه ثم انطلقوا به، فتلقاهم عبد المطلب مقبلا من الطائف معه ابنه أبو لهب يقوده وقد ذهب بصره، فلما نظر إليه حذافة هتف به، فقال عبد المطلب لأبي لهب: ويلك ما هذا؟ قال: هذا حذافة بن غانم مربوطا مع ركب، قال الحقهم واسألهم ما شأنهم، فلحقهم فأخبروه الخبر، فرجع إلى عبد المطلب، فقال ما معك؟ قال: والله ما معي شيء، قال: الحقهم لا أم لك وأعطهم ما بيدك وأطلق الرجل، فلحقهم أبو لهب فقال: قد عرفتم تجارتي ومالي، وأنا أحلف لكم لأعطينكم عشرين أوقية ذهبا وعشرا من الإبل وفرسا، وهذا ردائي رهنا بذلك، فقبلوه منه وأطلقوا حذافة فأقبل به، فلما سمع عبد المطلب صوت أبي لهب قال: وأبي إنك لعاص؟ ارجع لا أم لك، قال: يا أبتاه هذا الرجل معي، فناداه يا حذافة أسمعني صوتك فقال: ها أنا ذا بأبي أنت يا ساقي الحجيج أردفني، فأردفه خلفه حتى دخل مكة، فقال حذافة هذه القصيدة ومطلعها:
بنو شيبة الحمد الذي كان وجهه ** يضيء ظلام الليل كالقمر البدر
وهي قصيدة جيدة.
فإن قيل: كيف قبل القوم من أبي لهب رهن ردائه على ما ذكره لهم في أن يخلوا عن الرجل مع أن رداءه لا يقع موقعا من ذلك؟
أجيب: بأن سنة العرب وطريقتهم أن الواحد منهم إذا رهن غيره ولو شيئا حقيرا على أمر جليل لا يغدر، بل يحرص على وفاء ما رهن عليه، ومن ثم لما أجدبت أرض تميم بدعاء النبي ﷺ عليهم ذهب سيدهم حاجب بن زرارة والد عطارد إلى كسرى ليأخذ منه أمانا لقومه لينزلوا ريف العراق لأجل المرعى، فقال له كسرى: أنتم قوم غدر، وأخاف على الرعايا منكم، فقال له حاجب: أنا ضامن أن لا تفعل قومي شيئا من ذلك، فقال له كسرى: ومن لي بوفائك؟ قال: هذه قوسي رهينة، فحمقه كسرى وجلساؤه وضحكوا منه، فقيل له: العرب لو رهن أحدهم شيئا لا بد أن يفي به، فلما أخصبت أرض تميم بدعاء النبي ﷺ لهم لما وفد إليه جماعة منهم وأسلموا ومات حاجب، أمر عطارد قومه بالذهاب إلى بلادهم، وجاء عطارد إلى كسرى فطلب قوس أبيه، فقال: إنك لم تسلم إليّ شيئا فقال: أيها الملك، أنا وارث أبي وقد وفينا بالضمان، فإن لم تدفع إلي قوس أبي صار عارا علينا وسبة، فدفعها له وكساه حلة، فلما وفد عطارد على النبي ﷺ وأسلم دفعها للنبي، فلم يقبلها وقال «إنما يلبس هذه الحلة من لا خلاق له» فكانت بنو تميم تعد ذلك القوس من مفاخرهم، وإلى هذا أشار بعض الشعراء وقد أحسن وأجاد وتلطف بقوله:
تزهو علينا بقوس حاجبها ** تيه تميم بقوس حاجبها
وصار قصي رئيسا لقريش على الإطلاق حين أزاح يد خزاعة عن البيت، وأجلاهم عن مكة بعد أن لم يسلموا لقصي في ولاية أمر البيت، ولم يجيزوا ما فعل حليل وأبو غبشان على ما تقدم، وذلك بعد أن اقتتلوا آخر أيام منى بعد أن حذرتهم قريش الظلم والبغي، وذكرتهم ما صارت إليه جرهم حين ألحدوا في الحرم بالظلم، فأبت خزاعة، فاقتتلوا قتالا شديدا، وكثر القتل والجراح في الفريقين إلا أنه في خزاعة أكثر، ثم تداعوا للصلح واتفقوا على أن يحكموا بينهم رجلا من العرب، فحكموا يعمر بن عوف وكان رجلا شريفا، فقال لهم: موعدكم فناء الكعبة غدا، فلما اجتمعوا قام يعمر، فقال: ألا إني قد شدخت ما كان بينكم من دم تحت قدميّ هاتين، فلا تباعة لأحد على أحد في دم. وقيل قضى بأن كل دم أصابته قريش من خزاعة موضوع، وأن ما أصابته خزاعة من قريش فيه الدية، وقضى لقصيّ بأنه أولى بولاية مكة، فتولاها. قيل: وكان يعشر من دخل مكة من غير أهلها، أي بتجارة، وكانت خزاعة قد أزالت يد جرهم عن ولاية البيت، فإن مضاض بن عمرو الجرهمي الأكبر ولي أمر البيت بعد ثابت بن إسماعيل ، فإنه كان جدا لثابت وغيره من أولاد إسماعيل لأمهم، واستمرت جرهم ولاة البيت والحكام بمكة لا ينازعهم ولد إسماعيل في ذلك لخؤولهم، وإعظاما لأن يكون بمكة بغي.
ثم إن جرهما بغوا بمكة، وظلموا من يدخلها من غير أهلها، وأكلوا مال الكعبة الذي يهدى لها، حتى إن الرجل منهم كان إذا أراد أن يزني ولم يجد مكانا دخل البيت فزنى فيه، فأجمعت ـ أي عزمت ـ خزاعة لحربهم وإخراجهم من مكة، ففعلوا ذلك بعد أن سلط الله تعالى على جرهم دواب تشبه النغف بالغين المعجمة والفاء: وهو دود يكون في أنوف الإبل والغنم، فهلك منهم ثمانون كهلا في ليلة واحدة سوى الشباب. وقيل سلط الله عليهم الرعاف فأفنى غالبهم: أي وجاز أن يكون ذلك الدم ناشئا عن ذلك الدود فلا مخالفة، وذهب من بقي إلى اليمن مع عمرو بن الحرث الجرهمي آخر من ملك أمر مكة من جرهم، وحزنت جرهم على ما فارقوا من أمر مكة وملكها حزنا شديدا وقال عمرو أبياتا منها:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ** أنيس ولم يسمر بمكة سامر
وكنا ولاة البيت من بعد نابت ** نطوف بذاك البيت والخير ظاهر
بلى نحن كنا أهلها فأبادنا ** صروف الليالي والدهور البواتر
ومن غريب الاتفاق ما حكاه بعضهم قال: كنت أكتب بين يدي الوزير يحيى بن خالد البرمكي أيام الرشيد فأخذه النوم، فنام برهة ثم انتبه مذعورا فقال: الأمر كما كان، والله ذهب ملكنا، وذل عزنا، وانقضت أيام دولتنا. قلت: وما ذاك أصلح الله الوزير؟ قال: سمعت منشدا أنشدني: كأن لم يكن بين الحجون البيت، وأجبته من غير روية: بلى نحن كنا أهلها البيت، فلما كان اليوم الثالث وأنا بين يديه على عادتي إذ جاءه إنسان وأكب عليه، وأخبره أن الرشيد قتل جعفرا الساعة قال: أو قد فعل؟ قال نعم، فما زاد أن رمى القلم من يده وقال: هكذا تقوم الساعة بغتة.
ومما يؤثر عن يحيى هذا: ينبغي للإنسان أن يكتب أحسن ما يسمع، ويحفظ أحسن ما يكتب، ويحدث بأحسن ما يحفظ. وقال: من لم يبت على سرور الوعد لم يجد للصنيعة طعما.
وصارت خزاعة بعد جرهم ولاة البيت والحكام بمكة كما تقدم، وكان كبير خزاعة عمرو بن لحي، وهو ابن بنت عمرو بن الحارث الجرهمي آخر ملوك جرهم المتقدم ذكره. وقد بلغ عمرو بن لحي في العرب من الشرف ما لم يبلغه عربي قبله ولا بعده في الجاهلية.
وهو أول من أطعم الحج بمكة سدائف الإبل ولحمانها على الثريد. والسدائف: جمع سديف، وهو شحم السنام، وذهب شرفه في العرب كل مذهب حتى صار قوله دينا متبعا لا يخالف.
وفي كلام بعضهم: صار عمرو للعرب ربا، لا يبتدع لهم بدعة إلا اتخذوها شرعة، لأنه كان يطعم الناس ويكسوهم في الموسم، وربما نحر لهم في الموسم عشرة آلاف بدنة وكسا عشرة آلاف حلة.
وهو أول من غير دين إبراهيم: أي فقد قال بعضهم: تضافرت نصوص العلماء على أن العرب من عهد إبراهيم استمرت على دينه: أي من رفض عبادة الأصنام إلى زمن عمرو بن لحي، فهو أول من غير دين إبراهيم، وشرع للعرب الضلالات، فعبد الأصنام وسيب السائبة وبحر البحيرة.
وقيل أول من بحر البحيرة رجل من بني مدلج كانت له ناقتان فجدع أذنيهما وحرم ألبانهما، فقال رسول الله: «رأيته في النار يخبطانه بأخفافهما ويعضانه بأفواههما».
وعمرو أول من وصل الوصيلة، وحمى الحامي، ونصب الأصنام حول الكعبة وأتى بهبل من أرض الجزيرة ونصبه في بطن الكعبة فكانت العرب تستقسم عنده بالأزلام على ما سيأتي. وأول من أدخل الشرك في التلبية، فإنه كان يلبى بتلبية إبراهيم الخليل ، وهي «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك» فعند ذلك تمثل له الشيطان في صورة شيخ يلبي معه، فلما قال عمرو لبيك لا شريك لك، قال له ذلك الشيخ: إلا شريكا هو لك، فأنكر عمرو ذلك، فقال له ذلك الشيخ: تملكه وما ملك، وهذا لا بأس به، فقال ذلك عمرو، فتبعته العرب على ذلك: أي فيوحدونه بالتلبية، ثم يدخلون معه أصنامهم ويجعلون ملكها بيده، قال تعالى توبيخا لهم {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} وهو أول من أحل أيضا أكل الميتة، فإن كل القبائل من ولد إسماعيل لم تزل تحرم أكل الميتة حتى جاء عمرو بن لحي فزعم أن الله تعالى لا يرضى تحريم أكل الميتة، قال: كيف لا تأكلون ما قتل الله وتأكلون ما قتلتم؟
وروى البخاري أن رسول الله ﷺ قال: «رأيت جهنم يحطم بعضها بعضا، ورأيت عمرا يجر قُصبه في النار» وفي رواية «أمعاءه» أي وهي المراد بالقصب بضم القاف. وفي رواية «رأيته يؤذي أهل النار بريح قصبه» ويقال للأمعاء الأقتاب واحدها قتب بكسر القاف وسكون المثناة الفوقية آخره ياء موحدة، ومن ذلك قوله «يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه في النار» والاندلاق: الخروج بسرعة. وقال لأكثم بن الجون الخزاعي واسمه عبد العزى و أكثم بالثاء المثلثة: وهو في اللغة واسع البطن «يا أكثم رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار، فما رأيت رجلا أشبه من رجل منك به ولا بك منه، فقال أكثم: فعسى أن يضرني شبهه يا رسول الله، قال لا، إنك مؤمن وهو كافر، إنه أول من غير دين إسماعيل فنصب الأوثان» أي ودين إسماعيل هو دين إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، فإن العرب من عهد إبراهيم استمرت على دينه لم يغيره أحد إلى عهد عمرو المذكور كما تقدم. وفي كلام بعضهم أن أكثم هذا هو أبو معبد زوج أم معبد التي مرّ بها رسول الله ﷺ عند الهجرة، وأكثم هذا هو الذي قال له رسول الله «رأيت الدجال، فإذا أشبه الناس به أكثم بن عبد العزى، فقام أكثم فقال: أيضرني شبهي إياه؟ فقال: لا، أنت مؤمن وهو كافر» ورده ابن عبد البر حيث قال: الحديث الذي فيه ذكر الدجال لا يصح إنما يصح ما قاله في ذكر عمرو بن لحي.
وإنما كان عمرو بن لحي أول من نصب الأوثان، لأنه خرج من مكة إلى الشام في بعض أموره فرأى بأرض البلقاء العماليق ولد عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح، ورآهم يعبدون الأصنام، فقال لهم، ما هذه؟ قالوا هذه أصنام نعبدها، فنستمطرها فتمطرنا ونستنصرها فتنصرنا، فقال لهم: أفلا تعطوني منها صنما فأسير به إلى أرض العرب؟ فأعطوه صنما يقال له هبل، فقدم به مكة فنصبه في بطن الكعبة على بئرها، وأمر الناس بعبادته وتعظيمه فكان الرجل إذا قدم من سفره بدأ به قبل أهله بعد طوافه بالبيت وحلق رأسه عنده، وكان عند هبل سبع قداح: قدح فيه مكتوب الغفل إذا اختلفوا فيمن يحمله منهم ضربوا به فعلى من خرج حمله. وقدح مكتوب فيه نعم. وقدح مكتوب فيه لا وذلك للأمر الذي يريدونه، وقدح فيه منكم. وقدح فيه ملصق من غيركم إذا اختلفوا في ولد هل هو منهم أو لا. وقدح فيه بها. وقدح فيه ما بها إذا أرادوا أرضا يحفرونها للماء وكان هبل من العقيق على صورة إنسان.
وعاش عمرو بن لحي هذا ثلثمائة سنة وأربعين سنة، ورأى من ولده وولد ولده ألف مقاتل: أي ومكث هو وولده من بعده في ولاية البيت خمسمائة سنة، وكان آخرهم حليل الذي تزوج قصيّ ابنته كما تقدم.
وقيل: وكان لعمرو تابع من الجن، فقال له: اذهب إلى جدة وائت منها بالآلهة التي كانت تعبد في زمن نوح وإدريس عليهما الصلاة والسلام، وهي ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر، فذهب وأتى بها إلى مكة ودعا إلى عبادتها، فانتشرت عبادة الأصنام في العرب، فكان ود لكلب، وسواع لهمدان، وقيل لهذيل، ويغوث لمذحج بالذال المعجمة على وزن مسجد أبو قبيلة من اليمن، ويعوق لمراد. وقيل لهمدان، ونسر لحمير أي وكانوا هؤلاء على صور عباد ماتوا، فحزن أهل عصرهم عليهم فصوّر لهم إبليس اللعين أمثالهم من صفر ونحاس ليستأنسوا بهم، فجعلوها في مؤخر المسجد، فلما هلك أهل ذلك العصر قال اللعين لأولادهم: هذه آلهة آبائكم تعبدونها، ثم إن الطوفان دفنها في ساحل جدة فأخرجها اللعين.
وفي كلام بعضهم أن آدم كان له خمسة أولاد صلحاء، وهم ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، فمات ودّ فحزن الناس عليه حزنا شديدا، واجتمعوا حول قبره لا يكادون يفارقونه، وذلك بأرض بابل، فلما رأى إبليس ذلك من فعلهم جاء إليهم في صورة إنسان وقال لهم: هل لكم أن أصور لكم صورته إذا نظرتم إليها ذكرتموه؟ قالوا نعم، فصوّر لهم صورته، ثم صار كلما مات واحد منهم صور صورته وسموا تلك الصور بأسمائهم، ثم لما تقادم الزمان وماتت الآباء والأبناء وأبناء الأبناء قال لمن حدث بعدهم إن الذين كانوا قبلكم يعبدون هذه الصور فعبدوها، فأرسل الله لهم نوحا، فنهاهم عن عبادتها فلم يجيبوه لذلك، وكان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق. فأول ما حدثت عبادة الأصنام في قوم نوح، فأرسله الله تعالى إليهم فنهاهم عن ذلك.
ويقال إن عمرو بن لحي هو الذي نصب مناة على ساحل البحر مما يلي قديد، وكانت الأزد يحجون إليه ويعظمونه، وكذلك الأوس والخزرج وغسان.
وذكر الشيخ عبد الوهاب الشعراني في تفسيره لبعض الآيات القرآنية عند قوله تعالى {ولله يسجد من في السموات والأرض} أن أصل وضع الأصنام إنما هو من قوة التنزيه من العلماء الأقدمين، فإنهم نزهوا الله تعالى عن كل شيء وأمروا بذلك عامتهم، فلما رأوا أن بعض عامتهم صرح بالتعطيل وضعوا لهم الأصنام وكسوها الديباج والحلي والجواهر، وعظموها بالسجود وغيره ليتذكروا بها الحق الذي غاب عن عقولهم، وغاب عن أولئك العلماء أن ذلك لا يجوز إلا بإذن من الله تعالى، هذا كلامه.
وكان في زمان جرهم رجل فاجر يقال له إساف فجر بامرأة يقال لها نائلة في جوف الكعبة أي قبلها فيها كما في تاريخ الأزرقي.
وقيل زنى بها فمسخا حجرين، فأخرجا منها ونصبا على الصفا والمروة ليكونا عبرة، فلما كان زمن عمرو بن لحي أخذهما ونصبهما حول الكعبة أي على زمزم وجعلا في وجهها وصار من يطوف يتمسح بهما يبدأ بإساف ويختم بنائلة، وذلك قبل أن يقدم عمرو بهبل وبتلك الأصنام، وكانت قريش تذبح ذبائحها عندهما.
وذكر أنه لما كسر نائلة عند فتح مكة خرجت منها امرأة سوداء شمطاء تخمش وجهها وهي تنادي بالويل والثبور، وكان عمرو يخبر قومه بأن الرب يشتي بالطائف عند اللات ويصيف عند العزى، فكانوا يعظمونهما وكانوا يهدون إلى العزى كما يهدون إلى الكعبة.
وقصي هو الذي أمر قريشا أن يبنوا بيوتهم داخل الحرم حول البيت وقال لهم إن فعلتم ذلك هابتكم العرب ولم تستحل قتالكم، فبنوا حول البيت من جهاته الأربع وجعلوا أبواب بيوتهم جهته لكل بطن منهم باب ينسب الآن إليه، كباب بني شيبة، وباب بني سهم، وباب بني مخزوم، وباب بني جمع، وتركوا قدر الطواف بالبيت، فبنى قصي دار الندوة وهي أول دار بنيت بمكة، واستمر الأمر على أنه ليس حول الكعبة إلا قدر المطاف، وليس حوله جدار زمنه وزمن ولاية الصديق فلما كان زمن ولاية عمر بن الخطاب اشترى تلك الدور من أهلها وهدمها وبنى المسجد المحيط بها، ثم لما كان زمن ولاية عثمان اشترى دورا أخر وغالى في ثمنها وهدمها وزاد في سعة المسجد، ثم إن ابن الزبير زاد في المسجد زيادة كثيرة، ثم إن عبد الملك بن مروان رفع جداره وسقفه بالساج وعمره عمارة حسنة ولم يزد فيه شيئا، ثم إن الوليد بن عبد الملك وسع المسجد وحمل إليه أعمدة الرخام، ثم زاد فيه المهدي والد الرشيد مرتين، واستقر بناؤه على ذلك إلى الآن.
وكانت قريش قبل ذلك: أي قبل بناء منازلهم في الحرم يحترمون الحرم ولا يبيتون فيه ليلا، وإذا أراد أحدهم قضاء حاجة الإنسان خرج إلى الحل.
وقد جاء أنه لما كان بمكة إذا أراد حاجة الإنسان خرج إلى المغمس بكسر الميم أفصح من فتحها، وهو على ثلثي فرسخ من مكة، وهابت قريش قطع شجر الحرم التي في منازلهم التي بنوها، فقد كان بمكة شجر كثير من العضاه والسلم، وشكوا في ذلك إلى قصي فأمرهم بقطعها، فهابوا ذلك، فقالوا نكره أن ترى العرب أنا استخففنا بحرمنا، فقال قصي: إنما تقطعونه لمنازلكم وما تريدون به فسادا، بهلة الله: أي لعنته على من أراد فسادا، فقطعها قصي بيده وبيد أعوانه.
وفي كلام السهيلي عن الواقدي: الأصح أن قريشا حين أرادوا البنيان قالوا لقصي كيف نصنع في شجر الحرم، فحذرهم قطعها وخوفهم العقوبة في ذلك، فكان أحدهم يحدق بالبنيان حول الشجرة حتى تكون في منزله.
قال: وأول من ترخص في قطع شجر الحرم للبنيان عبد الله بن الزبير حين ابتنى دورا بقعيقعان، لكنه جعل فداء كل شجرة بقرة فليتأمل الجمع.
وأنزل قصي القبائل من قريش: أي فإنه جعلها اثنتي عشرة قبيلة كما تقدم في نواحي مكة بطاحها و ظواهرها، ومن ثم قيل لمن سكن البطاح قريش البطاح، ولمن سكن الظواهر قريش الظواهر، والأولى أشرف من الثانية، ومن الأولى بنو هاشم، وإلى ذلك يشير صاحب الأصل في وصفه بقوله:
من بني هاشم بن عبد مناف ** وبنو هاشم بحار الحياء
من قريش البطاح من عرف النا ** س لهم فضلهم بغير امتراء
قال بعضهم: كان قصي أول رجل من بني كنانة أصاب ملكا ولما حضر الحج قال لقريش: قد حضر الحج وقد سمعت العرب بما صنعتم وهم لكم معظمون، ولا أعلم مكرمة عند العرب أعظم من الطعام، فليخرج كل إنسان منكم من ماله خرجا ففعلوا، فجمع من ذلك شيئا كثيرا، فلما جاء أوائل الحج نحر على كل طريق من طرق مكة جزورا ونحر بمكة وجعل الثريد واللحم، وسقى الماء المحلى بالزبيب وسقي اللبن. وهو أول من أوقد النار بمزدلفة ليراها الناس من عرفة ليلة النفر.
ومما يؤثر عن قصي: من أكرم لئيما أشركه في لؤمه. ومن استحسن قبيحا نزل إلى قبحه. ومن لم تصلحه الكرامة أصلحه الهوان. ومن طلب فوق قدره استحق الحرمان. والحسود العدو الخفي.
ولما احتضر قال لأولاده: اجتنبوا الخمرة، فإنها تصلح الأبدان وتفسد الأذهان.
وحاز قصي شرف مكة كله، فكان بيده السقاية والرفادة والحجابة والندوة واللواء والقيادة.
وكان عبد الدار أكبر أولاد قصي وعبد مناف أشرفهم: أي لأنه شرف في زمان أبيه قصي، وذهب شرفه كل مذهب، وكان يليه في الشرف أخوه المطلب، كان يقال لهما البدران، وكانت قريش تسمي عبد مناف الفياض لكثرة جوده، فأعطى قصي ولده عبد الدار جميع تلك الوظائف التي هي السقاية والرفادة والحجابة والندوة واللواء والقيادة: أي فإنه قال له: أما والله يا بني لألحقنك بالقوم يعني أخويه عبد مناف والمطلب وإن كانوا قد شرفوا عليك، لا يدخل رجل منهم الكعبة حتى تكون أنت تفتحها له: أي بسبب الحجابة للبيت، ولا يعقد لقريش لواء لحربها إلا أنت بيدك: أي وهذا هو المراد باللواء، ولا يشرب رجل بمكة إلا من سقايتك، وهذا هو المراد بالسقاية، ولا يأكل أحد من أهل الموسم إلا من طعامك: أي وهذا هو المراد بالرفادة ولا تقطع قريش أمرا من أمورها إلا في دارك يعني دار الندوة: أي ولا يكون أحد قائد القوم إلا أنت وذلك بسبب القيادة.
فلما مات عبد الدار وأخوه عبد مناف أراد بنو عبد مناف وهم هاشم وعبد شمس والمطلب، وهؤلاء إخوة لأب وأم، أمهم عاتكة بنت مرة، ونوفل أخوهم لأبيهم، أمه واقدة بنت حرمل أن يأخذوا تلك الوظائف من بني عمهم عبد الدار، وأجمعوا على المحاربة: أي وأخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيبا فوضعوها لأحلافهم في المسجد عند باب الكعبة ثم غمس القوم أيديهم فيها، وتعاقدوا هم وحلفاؤهم، ثم مسحوا الكعبة بأيديهم توكيدا على أنفسهم، فسموا المطيبين: أي أخرجتها لهم أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب عمة النبي ﷺ توأمة أبيه، ووضعتها في الحجر وقالت: من تطيب بهذا فهو منا، فتطيب منها مع بني عبد مناف بنو زهرة وبنو أسد بن عبد العزى وبنو تميم بن مرة وبنو الحارث بن فهر، فالمطيبون من قريش خمس قبائل. وتعاقد بنو عبد الدار وأحلافهم، وهم: بنو مخزوم وبنو سهم وبنو جمح وبنو عدي بن كعب، على أن لا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضا، فسموا الأحلاف لتحالفهم بعد أن أخرجوا جفنة مملوءة دما من دم جزور نحروها ثم قالوا: من أدخل يده في دمها فلعق منه فهو منا وصاروا يضعون أيديهم فيها ويلعقونها فسموا لعقة الدم.
وقيل الذين لعقوا الدم فسموا لعقة الدم بنو عدي خاصة، ثم اصطلحوا على أن تكون السقاية والرفادة والقيادة لبني عبد مناف، والحجابة واللواء لبني عبد الدار، ودار الندوة بينهم بالاشتراك، وتحالفوا على ذلك هذا.
والذي رأيته (في المشرق فيم يحاضر به من آداب المشرق): ولما شرف عبد مناف بن قصي في حياة أبيه، وذهب شرفه كل مذهب، وكان قصي يحب ابنه عبد الدار أراد أن يبقي له ذكرا فأعطاه الحجابة ودار الندوة واللواء، وأعطى عبد مناف السقاية والرفادة والقيادة، وجعل عبد الدار الحجابة لولده عثمان، وجعل دار الندوة لولده عبد مناف بن عبد الدار، ثم وليها عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار، ثم وليها ولده من بعده.
والسقاية كانت حياضا من أدم توضع بفناء الكعبة، وينقل إليها الماء العذب من الآبار على الإبل في المزاود والقرب قبل حفر زمزم، وربما قذف فيها التمر والزبيب في غالب الأحوال لسقي الحاج أيام الموسم حتى يتفرقوا، وهذه السقاية قام بها وبالرفادة بعد عبد مناف ولده هاشم، وبعده ولده عبد المطلب، وكان شريفا مطاعا جوادا، وكانت قريش تسميه الفياض لكثرة جوده، فلما كبر عبد المطلب فوّض إليه أمر السقاية والرفادة، فلما مات المطلب وثب عليه عمه نوفل بن عبد مناف وغصبه أركاحا: أي أفنية ودورا، فسأل عبد المطلب رجالا من قومه النصرة على عمه نوفل فأبوا وقالوا: لا ندخل بينك وبين عمك فكتب إلى أخواله بني النجار بالمدينة بما فعله معه عمه نوفل، فلما وقف خاله أبو سعد بن عدي بن النجار على كتابه بكى، وسار من المدينة في ثمانين راكبا حتى قدم مكة فنزل الأبطح، فتلقاه عبد المطلب وقال له المنزل يا خال، فقال: لا والله حتى ألقى نوفلا، فقال: تركته في الحجر جالسا في مشايخ قريش، فأقبل أبو سعد حتى وقف عليهم، فقام نوفل قائما وقال: يا أبا سعد، أنعم صباحا فقال له أبو سعد: لا أنعم الله لك صباحا، وسل سيفه وقال: ورب هذه البنية لئن لم تردّ على ابن أختي أركاحه لأملأن منك هذا السيف، فقال: قد رددتها عليه، فأشهد عليه مشايخ قريش، ثم نزل على عبد المطلب، فأقام عنده ثلاثا ثم اعتمر ورجع إلى المدينة.
ولما جرى ذلك حالف نوفل وبنوه بني أخيه عبد شمس على بني هاشم، وحالفت بنو هاشم خزاعة على بني نوفل وبني عبد شمس: أي فإن خزاعة قالت: نحن أولى بنصرة عبد المطلب، لأن عبد مناف جد عبد المطلب أمه حي بنت حليل سيد خزاعة كما تقدم، فقالوا لعبد المطلب: هلم فلنحالفك، فدخلوا دار الندوة وتحالفوا وتعاقدوا وكتبوا بينهم كتابا: باسمك اللهم، هذا ما تحالف عليه بنو هاشم ورجالات عمرو بن ربيعة من خزاعة على النصرة والمواساة ما بلّ بحر صوفة، وما أشرقت الشمس على ثبير، وهبّ بفلاة بعير، وما أقام الأخشبان، واعتمر بمكة إنسان، والمراد من ذلك الأبد.
وعبد المطلب لما حفر زمزم صار ينقل الماء منها لتلك الأحواض ويقذف فيها التمر والزبيب، ثم بعده قام بها ولده أبو طالب، ثم اتفق أن أبا طالب أملق: أي افتقر في بعض السنين، فاستدان من أخيه العباس عشرة آلاف درهم إلى الموسم الآخر، فصرفها أبو طالب في الحجيج عامه ذلك فيما يتعلق بالسقاية، فلما كان العام المقبل لم يكن مع أبي طالب شيء، فقال لأخيه العباس أسلفني أربعة عشر ألفا أيضا إلى العام المقبل لأعطيك جميع مالك، فقال له العباس: بشرط إن لم تعطني تترك السقاية لأكفلها؟ فقال نعم، فلما جاء العام الآخر لم يكن مع أبي طالب ما يعطيه لأخيه العباس فترك له السقاية، فصارت للعباس، ثم لولده عبد الله بن عباس، واستمر ذلك في بني العباس إلى زمن السفاح، ثم ترك بنو العباس ذلك.
والرفادة: إطعام الحاج أيام الموسم حتى يتفرقوا، فإن قريشا كانت على زمن قصي تخرجه من أموالها في كل موسم فتدفعه إلى قصي، فيصنع به طعاما للحاج يأكل منه من لم يكن معه سعة ولا زاد كما تقدم حتى قام بها بعده ولده عبد مناف ثم بعد عبد مناف ولده هاشم ثم بعد هاشم ولده عبد المطلب، ثم ولده أبو طالب وقيل ولده العباس، ثم استمر ذلك إلى زمنه وزمن الخلفاء بعده ثم استمر ذلك في الخلفاء إلى أن انقرضت الخلافة من بغداد ثم من مصر.
وأما القيادة: وهي إمارة الركب، فقام بها بعد عبد مناف ولده عبد شمس ثم كانت بعد عبد شمس لابنه أمية ثم لابنه حرب، ثم لابنه أبي سفيان، فكان يقود الناس في غزواتهم، قاد الناس يوم أحد ويوم الأحزاب، ومن ثم لما قال الوليد بن عبد الملك لخالد بن يزيد بن معاوية: لست في العير ولا في النفير، قال: له ويحك، العير والنفير عيبتي: أي وعائي، لأن العيبة ما يجعل فيه الثياب، جدي أبو سفيان صاحب العير، وجدي عتبة بن ربيعة صاحب النفير.
ودار الندوة كانت قريش تجتمع فيها للمشاورة في أمورها، ولا يدخلها إلا من بلغ الأربعين، وكانت الجارية إذا حاضت تدخل دار الندوة ثم يشق عليها بعض ولد عبد الدار درعها ثم يدرعها إياه وانقلب بها فتحجب، وهذه كانت سنة قصي، فكان لا ينكح رجل امرأة من قريش إلا في دار قصي التي هي دار الندوة، ولا يعقد لواء حرب إلا فيها، ولا تدرع جارية من قريش إلا في تلك الدار فيشق عنها درعها ويدرعها بيده، فكانت قريش بعد موت قصي يتبعون ما كان عليه في حياته كالدين المتبع، ولا زالت هذه الدار في يد بني عبد الدار إلى أن صارت إلى حكيم بن حزام فباعها في الإسلام بمائة ألف درهم، فلامه عبد الله بن الزبير وقال أتبيع مكرمة آبائك وشرفهم؟ فقال حكيم : ذهبت المكارم إلا التقوى، والله لقد اشتريتها في الجاهلية بزق خمر، وقد بعتها بمائة ألف، وأشهدكم أن ثمنها في سبيل الله تعالى فأينا المغبون؟
قيل وقصي: هو جماع قريش، فلا يقال لأحد من أولاد من فوقه قرشي، ونسب هذا القول لبعض الرافضة، وهو قول باطل، لأنه توصل به إلى أن لا يكون سيدنا أبو بكر وسيدنا عمر من قريش فلا حق لهما في الامامة العظمى التي هي الخلافة، لقوله «الأئمة من قريش» ولقوله لقريش: «أنتم أولى الناس بهذا الأمر ما كنتم على الحق إلا أن تعدلوا عنه» لأنهما لم يلتقيا مع النبي ﷺ إلا فيما بعد قصي، لأن أبا بكر يجتمع معه في مرة كما سيأتي، لأن تيم بن مرة بينه وبين أبي بكر خمسة آباء، وعمر يجتمع معه في كعب كما سيأتي، وبين عمر وكعب سبعة آباء ( ) وقصي (بن كلاب) أي واسمه حكيم، وقيل عروة، ولقب بكلاب لأنه كان يحب الصيد وأكثر صيده كان بالكلاب، وهو الجد الثالث لأمنة أمه، ففي كلاب يجتمع نسب أبيه وأمه (ابن مرة) وهو الجد السادس لأبي بكر ، والإمام مالك يجتمع معه في هذا الجد الذي هو مرة أيضا (ابن كعب) أي وهو الجد الثامن لعمر ، وكان كعب يجمع قومه يوم العروبة: أي يوم الرحمة الذي هو يوم الجمعة، ويقال إنه أول من سماه يوم الجمعة لاجتماع قريش فيه إليه، لكن في الحديث كان أهل الجاهلية يسمون يوم الجمعة يوم العروبة، واسمه عند الله تعالى يوم الجمعة. قال ابن دحية: ولم تسم العروبة الجمعة إلا منذ جاء الاسلام، وسيأتي في ذلك كلام فكانت قريش تجتمع إلى كعب ثم يعظهم ويذكرهم بمبعث النبي، ويعلمهم بأنه من ولده، ويأمرهم باتباعه، ويقول: سيأتي لحرمكم نبأ عظيم، وسيخرج منه نبي كريم، وينشد أبياتا آخرها:
على غفلة يأتي النبي محمد ** فيخبر أخبارا صدوق خبيرها
وينشد أيضا:
يا ليتني شاهد فحواء دعوته ** حين العشيرة تبغي الحق خذلانا
وكان بينه وبين مبعثه خمسمائة سنة وستون سنة. وفي الإمتاع: وعشرون سنة، لأن الحق أن الخمسمائة والستين إنما هي بين موت كعب والفيل الذي هو مولده كما ذكره أبو نعيم في الدلائل النبوية.
وقيل إن كعبا أول من قال «أما بعد» فكان يقول: أما بعد فاسمعوا وافهموا، وتعلموا واعملوا، ليل داج. وفي رواية: ليل ساج، ونهار صاح، والأرض مهاد، والسماء بناء، والجبال أوتاد، والنجوم أعلام، والأولون كالآخرين، فصلوا أرحامكم واحفظوا أصهاركم، وثمروا أموالكم، الدار أمامكم، والظن غير ما تقولون: أي وقيل له كعب لعلوه وارتفاعه، لأن كل شيء علا وارتفع فهو كعب، ومن ثم قيل للكعبة كعبة ولعلوه وارتفاع شأنه أرّخوا بموته حتى كان عام الفيل أرخوا به ثم أرخوا بعد عام الفيل بموت عبد المطلب وكعب (بن لؤدي) أي بالهمزة أكثر من عدمها. أي وفي سبب تصغيره خلاف (ابن غالب بن فهر) سماه أبوه فهرا، وقيل هو لقب واسمه قريش، والمناسب أن يكون لقبا لقولهم: إنما سمي قريشا لأنه كان يقرش: أي يفتش على خلة حاجة المحتاج فيسدها بماله، وكان بنوه يقرشون أهل الموسم عن حوائجهم فيرفدونهم، فسموا بذلك قريشا. قال بعضهم: وهو جماع قريش عند الأكثر، قال الزبير بن بكار: أجمع النسابون من قريش وغيرهم على أن قريشا إنما تفرقت عن فهر، وفهر هذا هو الجد السادس لأبي عبيدة بن الجراح. ولما جاء حسان بن عبد كلال من اليمن في حمير وغيرهم لأخذ أحجار الكعبة إلى اليمن ليبني بها بيتا، ويجعل حج الناس إليه ونزل بنخلة، خرج فهر إلى مقاتلته بعد أن جمع قبائل العرب، فقاتله وأسره، وانهزمت حمير ومن انضم إليهم واستمر حسان في الأسر ثلاث سنين ثم افتدى نفسه بمال كثير، وخرج فمات بين مكة واليمن، فهابت العرب فهرا وعظموه وعلا أمره.
ومما يؤثر عن فهر قوله لولده غالب: قليل ما في يديك أغنى لك من كثير ما أخلق وجهك وإن صار إليك ( ) (وفهر هو ابن مالك) قيل له ذلك لأنه ملك العرب (ابن النضر) أي ولقب به لنضارته وحسنه وجماله، واسمه قيس، وهو جماع قريش عند الفقهاء، فلا يقال لأحد من أولاد من فوقه قرشي ( ) ويقال لكل من أولاده الذين منهم مالك وأولاده قرشي، فقد سئل رسول الله «من قريش؟ فقال من ولد النضر» أي وعلى أن جماع قريش فهر كما تقدم، فمالك وأولاده والنضر جده وأولاده ليسوا من قريش ( ) (النضر بن كنانة) قيل له كنانة، لأنه لم يزل في كنّ من قومه. وقيل لستره على قومه وحفظه لأسرارهم، وكان شيخا حسنا عظيم القدر تحج إليه العرب لعلمه وفضله. وكان يقول: قد آن خروج نبي من مكة يدعى أحمد يدعو إلى الله وإلى البر والإحسان ومكارم الأخلاق، فاتبعوه تزدادوا شرفا وعزا إلى عزكم، ولا تعتدوا أي تكذبوا ما جاء به فهو الحق. قال ابن دحية : كان كنانة يأنف أن يأكل وحده، فإذا لم يجد أحدا أكل لقمة ورمى لقمة إلى صخرة ينصبها بين يديه أنفة من أن يأكل وحده.
ومما يؤثر عنه: رب صورة تخالف المخبرة، قد غرت بجمالها، واختبر قبح فعالها فاحذر الصور واطلب الخبر (وكنانة بن خزيمة بن مدركة) ومدركة اسمه عمرو، وقيل له مدركة لأنه أدرك كل عز وفخر كان في آبائه، وكان فيه نور رسول الله ﷺ: أي ولعل المراد ظهوره فيه (ومدركة بن إلياس) بهمزة قطع مكسورة، وقيل مفتوحة أيضا، وقيل همزة وصل. ونسب للجمهور، قيل سمي بذلك، لأن أباه مضر كان قد كبر سنه ولم يولد له ولد فولد له هذا الولد فسماه إلياس، وعظم أمره عند العرب حتى كانت تدعوه بكبير قومه وسيد عشيرته، وكانت لا تقضي أمرا دونه.
وهو أول من أهدى البدن إلى البيت، وأول من ظفر بمقام إبراهيم لما غرق البيت في زمن نوح فوضعه في زاوية البيت كذا في حياة الحيوان فليتأمل، وجاء في حديث «لا تسبوا إلياس فإنه كان مؤمنا» وقيل إنه جماع قريش: أي فلا يقال لأولاد من فوقه قرشي. وكان إلياس يسمع من صلبه تلبية النبي ﷺ المعروفة في الحج. قيل وكان في العرب مثل لقمان الحكيم في قومه. وهو أول من مات بعلة السل، ولما مات حزنت عليه زوجته خندف حزنا شديدا، لم يظلها سقف بعد موته حتى ماتت. ومن ثم قيل: أحزن من خندف (وإلياس بن مضر) قيل هو جماع قريش فلا يقال لأولاد من فوق مضر قرشي. ففي جماع قريش خمسة أقوال: قيل قصي، وقيل فهر، وقيل النضر، وقيل إلياس، وقيل مضر، ويقال له مضر الحمراء، قيل لأنه لما اقتسم هو وأخوه ربيعة مال والدهما أعني نزارا أخذ مضر الذهب فقيل له مضر الحمراء، وأخذ ربيعة الخيل ومن ثم قيل له ربيعة الفرس. وجاء في حديث «لا تسبوا ربيعة ولا مضر فإنهما كان مؤمنين» أي وفي رواية «لا تسبوا مضر فإنه كان على ملة إبراهيم» وفي حديث غريب «لا تسبوا مضر فإنه كان على دين إسماعيل». ومما حفظ عنه: من يزرع شرا يحصد ندامة.
أقول: سيأتي في بنيان قريش الكعبة أنهم وجدوا فيها كتبا بالسريانية من جملتها كتاب فيه: من يزرع خيرا يحصد غبطة، ومن يزرع شرا يحصد ندامة، إلى آخر ما يأتي. وعن أبي عبيدة البكري أن قبر مضر بالروحاء يزار، والروحاء على ليلتين من المدينة والله أعلم.
وكان مضر من أحسن الناس صوتا، وهو أول من حدا للإبل، فإنه وقع فانكسرت يده فصار يقول يا يداه يا يداه فجاءت إليه الإبل من المرعى، فلما صح وركب حدا. وقيل أول من سن الحداء للإبل عبد له ضرب مضر يده ضربا وجيعا فصار يقول يا يداه يا يداه فجاءت إليه الإبل من مرعاها: أي لأن الحداء مما ينشط الإبل لا سيما إن كان بصوت حسن، فإنها عند سماعه تمد أعناقها وتصغي إلى الحادي وتسرع في سيرها وتستخف الأحمال الثقيلة، فربما قطعت المسافة البعيدة في زمن قصير، وربما أخذت ثلاثة أيام في يوم واحد، وفي ذلك حكاية مشهورة، ولأجل ما ذكر ذكر أئمتنا أنه مستحب.
وفي الأذكار للإمام النووي : باب استحباب الحداء، للسرعة في السير، وتنشيط النفوس وترويحها، وتسهيل السير عليها فيه أحاديث كثيرة مشهورة (ومضر بن نزار) بكسر النون كان يرى نور النبي ﷺ بين عينيه. وهو أول من كتب الكتاب العربي على الصحيح، والإمام أحمد بن حنبل يجتمع معه في هذا الجد الذي هو نزار بن (معد بن عدنان) هذا هو النسب المجمع عليه في نسبه عند العلماء بالأنساب، ومن ثم لما قال فقهاؤنا: شرط الإمام الأعظم أن يكون قرشيا، فإن لم يوجد قرشي جامعا للشروط التي ذكروها فكناني. قال بعضهم: وقياس ذلك أن يقال: فإن لم يوجد كناني فخزيمي فإن لم يوجد خزيمي فمدركي، فإن لم يوجد مدركي فإلياسي، فإن لم يوجد إلياسي فمضري. فإن لم يوجد مضري فنزاري، فإن لم يوجد نزاري فمعدي، فإن لم يوجد معدي فعدناني، فإن لم يوجد عدناني فمن ولد إسماعيل، لأن من فوق عدنان لا يصح فيه شيء، ولا يمكن حفظ النسب فيه منه إلى إسماعيل.
وقيل له معد لأنه كان صاحب حروب وغارات على بني إسرائيل، ولم يحارب أحدا إلا رجع بالنصر والظفر. قال بعضهم: ولا يخرج عربي في الأنساب عن عدنان وقحطان.
وقيل وولد عدنان يقال لهم قيس، وولد قحطان يقال لهم يمن. ولما سلط الله بختنصر على العرب أمر الله تعالى أرمياء أن يحمل معه معدّ بن عدنان على البراق كيلا تصيبه النقمة، وقال: فإني سأخرج من صلبه نبيا كريما أختم به الرسل، ففعل أرمياء ذلك، واحتمله معه إلى أرض الشام، فنشأ مع بني إسرائيل، ثم عاد بعد أن هدأت الفتن: أي بموت بختنصر. وكان عدنان في زمن عيسى ، وقيل في زمن موسى . قال الحافظ ابن حجر، وهو أولى: أي ومما يضعف الأول ما في الطبراني عن أبي أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «لما بلغ ولد معد بن عدنان أربعين رجلا وقعوا في عسكر موسى فانتهبوه فدعا عليهم موسى ، فأوحى الله تعالى إليه: لا تدع عليهم فإن منهم النبي الأمي البشير النذير» الحديث، إذ يبعد بقاء معد إلى زمن عيسى ، ومعلوم أنه لا خلاف في أن عدنان من ولد إسماعيل نبي الله تعالى: أي أرسله الله تعالى إلى جرهم وإلى العماليق وإلى قبائل اليمن في زمن أبيه إبراهيم، وكذا بعث أخوه إسحق إلى أهل الشام، وبعث ولده يعقوب إلى الكنعانيين في حياة إبراهيم، فكانوا أنبياء على عهد إبراهيم .
وذكر بعضهم أن من العماليق فرعون موسى ، ومنهم الريان بن الوليد فرعون يوسف .
وكان إسماعيل بكر أبيه جاء له وقد بلغ أبوه من العمر سبعين سنة، وقيل ستا وثمانين سنة. ولد بين الرملة وإيليا، وكان بين عدنان وإسماعيل أربعون أبا. وقيل سبعة وثلاثون.
وفي النهر لأبي حيان أن إبراهيم هو الجد الحادي والثلاثون لنبينا، هذا كلامه.
ولا يخفى أن إسماعيل أول من تسمى بهذا الاسم من بني آدم، ومعناه بالعبرانية مطيع الله. وأول من تكلم بالعربية أي البينة الفصيحة، وإلا فقد تعلم أصل العربية من جرهم، ثم ألهمه الله العربية الفصيحة البينة فنطق بها. وفي الحديث «أول من فتق لسانه بالعربية البينة إسماعيل وهو ابن أربع عشرة سنة ».
وفي كلام بعضهم: «لما خرج إبراهيم بهاجر وولدها إسماعيل إلى مكة على البراق واحتمل معه قربة ماء ومزودا فيه تمر، فلما أنزلهما بها وولى راجعا تبعته هاجر وهي تقول: الله أمرك أن تدعني وهذا الصبي في هذا المحل الموحش الذي ليس به أنيس؟ قال نعم، فقالت: إذن لا يضيعنا، ولا زالت تأكل من التمر وتشرب من الماء إلى أن نفد الماء» الحديث. وكان إنزاله لهما بموضع الحجر، وذلك لمضي مائة سنة من عمر إبراهيم.
وكون إسماعيل أول من تكلم بالعربية البينة لا ينافي ما قيل: أول من تكلم بالعربية يعرب بن قحطان، وقحطان أول من قيل له: أبيت اللعن. وأول من قيل له: أنعم صباحا. ويعرب هذا قيل له أيمن، لأن هودا نبي الله قال له أنت أيمن ولدي، وسمي اليمن يمنا بنزوله فيه. وهو أول من قال القريض والرجز، وقيل سمي اليمن يمنا لأنه على يمين الكعبة. وقيل إن أول من كتب الكتاب العربي إسماعيل والصحيح أن أول من كتب ذلك نزار بن معد كما تقدم، وكذا كون إسماعيل أول من تكلم بالعربية البينة لا ينافي ما قيل: أول من تكلم بالعربية آدم في الجنة فلما أهبط إلى الأرض تكلم بالسريانية. قيل وسميت سريانية، لأن الله تعالى علمها آدم سرا من الملائكة وأنطقه بها.
وقيل إن أول من كتب الكتاب العربي والفارسي والسرياني والعبراني وغيرها من بقية الاثني عشر كتابا، وهي الحميري، واليوناني، والرومي، والقبطي والبربري، والأندلسي، والهندي، والصيني آدم ، كتبها في طين وطبخه، فلما أصاب الأرض الغرق وجد كل قوم كتابا فكتبوه، فأصاب إسماعيل الكتاب العربي: أي وأما ما جاء: أول من خط بالقلم إدريس فالمراد به خط الرمل.
وفي كلام بعضهم: أول من تكلم بالعربية المحضة، وهي عربية قريش التي نزل بها القرآن إسماعيل. وأما عربية قحطان وحمير فكانت قبل إسماعيل، ويقال لمن يتكلم بلغة هؤلاء العرب العاربة، ويقال لمن يتكلم بلغة إسماعيل العرب المستعربة وهي لغة الحجاز وما والاها.
وجاء «من أحسن أن يتكلم بالعربية فلا يتكلم بالفارسية فإنه يورث النفاق».
وقد ذكر بعضهم أن أهل الكهف كلهم أعجام، ولا يتكلمون إلا بالعربية، وأنهم يكونون وزراء المهدي. واشتهر على ألسنة الناس أنه قال: «أنا أفصح من نطق بالضاد» قال جمع: لا أصل له، ومعناه صحيح لأن المعنى أنا أفصح العرب لكونهم هم الذين ينطقون بالضاد ولا توجد في غير لغتهم.
وإسماعيل أول من ركب الخيل وكانت وحوشا: أي ومن ثم قيل لها العراب، أو لما سيأتي. وقد قال «اركبوا الخيل فإنها ميراث أبيكم إسماعيل ».
وفي رواية «أوحى الله تعالى إلى إسماعيل: أن اخرج أجياد» الموضع المعروف، سمي بذلك لأنه قتل فيه مائة رجل من العمالقة من جياد الرجال «فادع يأتك الكنز، فخرج إلى أجياد فألهمه الله تعالى دعاء فدعا به فلم يبق على وجه الأرض فرس بأرض العرب إلا جاءته وأمكنته من نواصيها، وذللها الله تعالى له، فاركبوها واعلفوها فإنها ميامين، وهي ميراث أبيكم إسمعيل».
وذكر الحافظ السيوطي أن له كتابا في الخيل سماه (جر الذيل في علم الخيل) وفي العرائس «أن الله تعالى لما أراد أن يخلق الخيل قال لريح الجنوب: إني خالق منك خلقا، فأجعله عزا لأوليائي، ومذلة على أعدائي، وجمالا لأهل طاعتي، فقالت: افعل ما تشاء، فقبض قبضة فخلق فرسا فقال لها: خلقتك عربيا، وجعلت الخير معقودا بناصيتك، والغنائم مجموعة على ظهرك، وعطفت عليك صاحبك، وجعلتك تطيري بلا جناح، فأنت للطلب وأنت للهرب».
وعن وهب أنه قيل لسليمان صلوات الله وسلامه عليه: إن خيلا بلقا لها أجنحة تطير بها وترد ماء كذا، فقال للشياطين عليّ بها فصبوا في العين التي تردها خمرا، فشربت فسكرت فربطوها وساسوها حتى تأنست.
وقيل ويجوز أن يكون المراد من تلك الخيل الفرس الذي قال فيه ﷺ «أتيت بمقاليد الدنيا على فرس أبلق جاءني به جبريل ».
وجاء «إن الله تعالى لما عرض على آدم كل شيء مما خلق قال له اختر من خلقي ما شئت، فاختار الفرس، فقيل له: اخترت عزك وعز ولدك، خالدا ما خلدوا وباقيا ما بقوا أبد الآبدين ودهر الداهرين» وهذا صريح في أن الخيل خلقت قبل آدم.
وقد سئل الإمام السبكي: هل خلقت الخيل قبل آدم أو بعده؟ وهل خلقت الذكور قبل الإناث أو الإناث قبل الذكور؟ فأجاب بأنا نختار أن خلق الخيل قبل آدم ، لأن الدواب خلقت يوم الخميس، وآدم خلق يوم الجمعة بعد العصر وأن الذكور خلقت قبل الإناث لأمرين: أحدهما أن الذكر أشرف من الأنثى. والثاني حرارة الذكر أقوى من الأنثى، ولذلك كان خلق آدم قبل خلق حواء فليتأمل.
وقد ذكر الإمام السهيلي أن في الفرس عشرين عضوا كل عضو منها يسمى باسم طائر، ذكرها وبينها الأصمعي. فمنها النسر، والنعامة، والقطاة، والذباب، والعصفور والغراب، والصرد، والصقر. قالوا: وفي الحيوان أعضاء باردة يابسة كالعظام نظير السوداء، وأعضاء باردة رطبة كالدماغ نظير البلغم. وأعضاء حارة يابسة كالقلب نظير الصفراء. وأعضاء حارة رطبة كالكبد نظير الدم.
وعن أنس «أن النبي ﷺ لم يكن شيء أحب إليه بعد النساء من الخيل» وجاء «ما من ليلة إلا والفرس يدعو فيها ويقول: رب إنك سخرتني لابن آدم، وجعلت رزقي في يده اللهم فاجعلني أحب إليه من أهله وولده» وقيل لبعض الحكماء: أي المال أشرف؟ قال فرس يتبعها فرس، وفي بطنها فرس. ومن ثم قيل: ظهر الخيل حرز، وبطنها كنز.
وفي الحديث «لما أراد ذو القرنين أن يسلك في الظلمة إلى عين الحياة سأل أي الدواب في الليل أبصر؟ فقالوا الخيل، فقال: أي الخيل أبصر؟ فقالوا الإناث، قال: فأي الإناث أبصر؟ قالوا البكارة، فجمع من عسكره ستة آلاف فرس كذلك».
وأعطى الله إسماعيل القوس العربية، وكان لا يرمي شيئا إلا أصابه. «وفي الحديث ارموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميا» أي قال ذلك لجماعة مر عليهم وهم ينتضلون، فقال «حسن هذا اللهو مرتين أو ثلاثا» زاد في بعض الروايات «ارموا وأنا مع بني فلان فأمسك الفريق الآخر، فقال لهم، ما بالكم لا ترمون؟ فقالوا يا رسول الله كيف نرمي وأنت معهم؟ إذن ينضلونا قال: ارموا وأنا معكم كلكم» أخرجه البخاري في صحيحه. زاد البيهقي في دلائل النبوة «فرموا عامة يومهم ذلك، ثم تفرقوا على السواء ما نضل بعضهم بعضا». وقد جاء «أحب اللهو إليّ إجراء الخيل والرمي، ارموا واركبوا، وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا» وقد جاء «أحب اللهو إلى الله تعالى إجراء الخيل والرمي» وجاء «كل شيء يلهو به الرجل باطل، إلا رمي الرجل بقوسه، أو تأديبه فرسه، أو ملاعبته امرأته فإنهن من الحق» وجاء «علموا أولادكم السباحة والرمي» وفي رواية «الرماية » وفي رواية «علموا بنيكم الرمي، فإنه نكاية العدو» وقد جاء «تعلموا الرمي؟ فإن ما بين الهدفين روضة من رياض الجنة » وروي مرفوعا «حق الولد على الوالد أن يعلمه الكتابة والسباحة والرمي» وجاء «من تعلم الرمي ثم نسيه فليس منا» وفي رواية «فهو نعمة جحدها».
قال الحافظ السيوطي والأحاديث المتعلقة بالرمي كثيرة. قال: وقد ألفت كتابا في الرمي سميته(غرس الأنشاب في الرمي بالنشاب) وفي العرائس: كان إسماعيل مولعا بالصيد، مخصوصا بالقنص والفروسية والرمي والصراع، والرمي سنة إذا نوى به التأهب للجهاد، لقوله تعالى {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة } وقوله «القوة الرمي» على حد قوله«الحج عرفة » وإلا فقد قال ابن عباس في الآية {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة } قال: الرمي والسيوف والسلاح. وسئل الحافظ السيوطي هل ما ذكره الطبري والمسعودي في تاريخيهما أن أول من رمى بالقوس العربية آدم ، وذلك لما أمره الله تعالى بالزراعة حين أهبط من الجنة وزرع، أرسل الله تعالى له طائرين يخرجان ما بذره ويأكلانه، فشكا الله تعالى ذلك، فهبط عليه جبريل وبيده قوس ووتر وسهمان، فقال آدم: ما هذا يا جبريل؟ فأعطاه القوس وقال: هذه قوة الله تعالى، وأعطاه الوتر وقال: هذه شدة الله تعالى، وأعطاه السهمين وقال: هذه نكاية الله تعالى، وعلمه الرمي بهما فرمى الطائرين فقتلهما، وجعلهما، يعني السهمين، عدة في غربته، وأنسا عند وحشته ثم صار القوس العربية إلى إبراهيم الخليل ، ثم إلى ولده إسماعيل، وهو يدل على أن قوس إبراهيم هي القوس التي هبطت على آدم من الجنة، وأنه ادخرها لإبراهيم، وهو خلاف قول بعضهم إنها غيرها أهبطت إلى إبراهيم من الجنة. فأجاب الحافظ السيوطي بقوله: راجعت تاريخ الطبري في تاريخ آدم وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام فلم أجده فيه، ولا تبعد صحته فإن الله تعالى علم آدم علم كل شيء.
وذكر أن ابن أبي الدنيا ذكر في كتاب الرمي من طريق الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس قال «أول من عمل القسي إبراهيم، عمل لإسماعيل ولإسحاق قوسين فكانا يرميان بها» وتقدم أن إسحاق جاء لإبراهيم بعد إسماعيل بثلاث عشرة، وقيل بأربع عشرة سنة: أي حملت به أمه سارة في الليلة التي خسف الله تعالى بقوم لوط فيها. ولها من العمر تسعون سنة.
وفي جامع ابن شداد يرفعه «كان اللواط في قوم لوط في النساء قبل الرجال بأربعين سنة، ثم استغنى النساء بالنساء والرجال بالرجال، فخسف الله تعالى بهم» قيل ولا يعمل عمل قوم لوط من الحيوان إلا الحمار والخنزير. وكان أول من اتخذ القسي الفارسية نمروذ فليتأمل الجمع. وقد يقال: لا منافاة، لجواز أن يكون إبراهيم أول من عمل القسي بعد ذهاب تلك القوس، فالأولية إضافية. ومعلوم أن إسماعيل بن إبراهيم خليل الله تعالى عليهما الصلاة والسلام: أي ولم يبعث بشريعة مستقلة من العرب بعد إسماعيل إلا محمد. وأما خالد بن سنان وإن كان من ولد إسماعيل على ما قيل، فقال بعضهم: لم يكن في بني إسماعيل نبي غيره قبل محمد، إلا أنه لم يبعث بشريعة مستقلة، بل بتقرير شريعة عيسى : أي وكان بينه وبين عيسى ثلاثمائة سنة، وخالد هذا هو الذي أطفأ النار التي خرجت بالبادية بين مكة والمدينة، كادت العرب أن تعبدها كالمجوس، كان يرى ضوؤها من مسافة ثمان ليال، وربما كان يخرج منها العنق فيذهب في الأرض فلا يجد شيئا إلا أكله، فأمر الله تعالى خالد بن سنان بإطفائها، وكانت تخرج من بئر ثم تنتشر، فلما خرجت وانتشرت أخذ خالد بن سنان يضربها ويقول: بدا بدا بدا كل هدى وهي تتأخر حتى نزلت إلى البئر، فنزل إلى البئر خلفها فوجد كلابا تحتها فضربها وضرب النار حتى أطفأها، ويذكر أنه كان هو السبب في خروجها فإنه لما دعا قومه وكذبوه وقالوا له إنما تخوفنا بالنار، فإن تسل علينا هذه الحرة نارا اتبعناك، فتوضأ ثم قال: اللهم إن قومي كذبوني ولم يؤمنوا بي إلا أن تسيل عليهم هذه الحرة نارا فأسلها عليهم نارا، فخرجت، فقالوا: يا خالد أرددها فإنا مؤمنون بك، فردها.
قيل وكان خالد بن سنان إذا استسقى يدخل رأسه في جيبه فيجيء المطر ولا يقلع إلا إن رفع رأسه. قيل «وقدمت ابنته وهي عجوز على النبي، فتلقاها بخير وأكرمها، وبسط لها رداءه وقال لها: مرحبا بابنة أخي، مرحبا بابنة نبي ضيعه قومه فأسلمت» وهذا الحديث مرسل رجاله ثقات. وفي البخاري «أنا أولى الناس بابن مريم في الدنيا والآخرة، وليس بيني وبينه نبي» قال بعضهم: وبه يرد على من قال كان بينهما خالد بن سنان. وقد يقال مراده بالنبي الرسول الذي يأتي بشريعة مستقلة. وحينئذ لا يشكل هذا لما علمت أنه لم يأت بشريعة مستقلة، ولا ما جاء في رواية أخرى «ليس بيني وبينه نبيّ ولا رسول» ولا ما في كلام البيضاوي تبعا للكشاف من أن بين عيسى ومحمد أربعة أنبياء: ثلاثة من بني إسرائيل، وواحد من العرب وهو خالد بن سنان، وبعده حنظلة بن صفوان عليهما الصلاة والسلام، أرسله الله تعالى لأصحاب الرس بعد خالد بمائة سنة لأنه يجوز أن يكون كل من هؤلاء الثلاثة لم يبعث بشريعة مستقلة، بل كان مقررا لشريعة عيسى أيضا كخالد بن سنان.
والرس: البئر الغير المطوية: أي الغير المبنية، كذا في الكشاف، والذي في القاموس كالصحاح المطوية بإسقاط غير، فإنهم قتلوا حنظلة ودسوه فيها: أي وحين دسوه فيها، غار ماؤها، وعطشوا بعد ريهم، ويبست أشجارهم، وانقطعت ثمارهم بعد أن كان ماؤها يرويهم ويكفي أرضهم جميعا، وتبدلوا بعد الأنس الوحشة، وبعد الاجتماع الفرقة لأنهم كانوا ممن يعبد الأصنام: أي وكان ابتلاهم الله تعالى بطير عظيم ذي عنق طويل كان فيه من كل لون، فكان ينقضّ على صبيانهم يخطفهم إذا أعوذه الصيد، وكان إذا خطف أحدا منهم أغرب به: أي ذهب به إلى جهة المغرب، فقيل له لطول عنقه ولذهابه إلى جهة المغرب عنقاء مغرب، فشكوا ذلك إلى حنظلة ، فدعا على تلك العنقاء، فأرسل الله تعالى عليها صاعقة فأهلكتها ولم تعقب، وكان جزاؤه منهم أن قتلوه وفعلوا به ما تقدم.
وذكر بعضهم أن حنظلة هذا كان من العرب من ولد إسماعيل أيضا : ثم رأيت ابن كثير ذكر أن حنظلة هذا كان قبل موسى ، وأنه لما ذكر أن في زمن عمر بن الخطاب فتحت تستر المدينة المعروفة وجدوا تابوتا، وفي لفظ: سريرا عليه دانيال ، ووجدوا طول أنفه شبرا، وقيل ذراعا، ووجدوا عند رأسه مصحفا فيه ما يحدث إلى يوم القيامة، وأن من وفاته إلى ذلك اليوم ثلاثمائة سنة، وقال: إن كان تاريخ وفاته القدر المذكور فليس بنبي بل هو رجل صالح، لأن عيسى ابن مريم ليس بينه وبين رسول الله ﷺ نبي بنص الحديث في البخاري.
أقول: قد علمت الجواب عن ذلك، بأن المراد بالنبي الرسول. وفيه أن هذا يبعده عطف الرسول على النبي المتقدم في بعض الروايات، إلا أن يجعل من عطف التفسير والله أعلم.
والفترة التي كانت بينهما أربعمائة سنة، وقيل ستمائة، وقيل بزيادة عشرين سنة. قالت عائشة : ما وجدنا أحدا يعرف ما وراء عدنان ولا قحطان إلا تخرصا أي كذبا لأن الخراص الكذاب كذا قيل.
أقول: لعل المراد بالكذب الغير المقطوع بصحته، لأن الخرص حقيقته الحزر والتخمين، وكل من تكلم كلاما بناه على ذلك قيل له خراص، ثم قيل للكذاب خراص توسعا، وحينئذ كان القياس أن يقال إلا خرصا: أي حزرا وتخمينا. وعلى هذا كأن الصّدِّيقية أرادت المبالغة للتنفير عن الخوض في ذلك. والله أعلم.
وعن عمرو بن العاص «أن النبي ﷺ انتسب حتى بلغ النضر بن كنانة ثم قال: فمن قال غير ذلك» أي مما زاد على ذلك «فقد كذب».
أقول: إطلاق الكذب على من زاد على كنانة إلى عدنان يخالف ما سبق من أن المجمع عليه إلى عدنان إلا أن يقال: لا مخالفة، لأنه يجوز أن يكون عمرو بن العاص لم يسمع ما زاد على النضر بن كنانة إلى عدنان مع ذكره له الذي سمعه غيره. وفي إطلاقه الكذب على ذلك التأويل السابق. وأخرج الجلال السيوطي في الجامع الصغير عن البيهقي أنه انتسب فقال «أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، إلى أن قال: ابن مضر بن نزار» وهذا هو الترتيب المألوف، وهو الابتداء بالأب ثم بالجد ثم بأب الجد وهكذا. وقد جاء في القرآن على خلافه في قوله تعالى حكاية عن سيدنا يوسف {واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب} قال بعضهم: والحكمة في ذلك أنه لم يرد مجرد ذكر الآباء، وإنما ذكرهم ليذكر ملتهم التي اتبعها، فبدأ بصاحب الملة ثم بمن أخذها عنه أولا فأولا على الترتيب، والله أعلم.
وعن ابن عباس «أن النبي ﷺ كان إذا انتسب لم يجاوز معد بن عدنان بن أدد، ثم يمسك ويقول: كذب النسابون مرتين أو ثلاثا».
قال البيهقي: والأصح أن ذلك: أي قوله «كذب النسابون» من قول ابن مسعود : أي لا من قوله.
أقول: والدليل على ذلك ما جاء: كان ابن مسعود إذا قرأ قوله تعالى: {ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله} قال: كذب النسابون، يعني الذين يدعون علم الأنساب، ونفي الله تعالى علمها عن العباد. ولا مانع أن يكون هذا القول صدر منه أولا ثم تابعه ابن مسعود عليه.
وقد يقال: هذه الرواية تقتضي إما الزيادة على المجمع عليه، وإما النقص عنه: أي زيادة أدد أو نقص عدنان، فهي مخالفة لما قبلها.
وفي كلام بعضهم أن بين عدنان وأدد أد، فيقال عدنان بن أد بن أدد قيل له أدد لأنه كان مديد الصوت، وكان طويل العز والشرف.
قيل وهو أول من تعلم الكتابة: أي العربية من ولد إسماعيل، وتقدم أن الصحيح أن أول من كتب نزار.
وانظر هل يشكل على ذلك ما رواه الهيثم بن عدي أن الناقل لهذه الكتابة يعني العربية من الحيرة إلى الحجاز حرب بن أمية بن عبد شمس. وقد يقال: الأولية إضافية: أي من قريش وعدنان، سمي بذلك، قيل لأن أعين الإنس والجن كانت إليه ناظرة.
قال بعضهم: اختلف الناس فيما بين عدنان وإسماعيل من الآباء، فقيل سبعة، وقيل تسعة، وقيل خمسة عشر، وقيل أربعون، والله أعلم، قال الله {وقرونا بين ذلك كثيرا} أي لا يكاد يحاط بها، فقد جاء «كان ما بين آدم ونوح عليهما السلام عشرة قرون، وبين نوح وإبراهيم عليهما السلام عشرة قرون».
وعن ابن عباس أن مدة الدنيا: أي من آدم سبعة آلاف سنة: أي وقد مضى منها قبل وجود النبي ﷺ خمسة آلاف وسبعمائة وأربعون سنة. وعن أبي خيثمة وثمانمائة سنة.
قلت: وفي كلام بعضهم من خلق آدم إلى بعثة نبينا محمد خمسة آلاف سنة وثمانمائة سنة وثلاثون سنة.
وقد جاء عن ابن عباس من طرق صحاح أنه قال «الدنيا سبعة أيام كل يوم ألف سنة، وبعث رسول الله ﷺ في آخر يوم منها».
وفي كلام الحافظ السيوطي: دلت الأحاديث والآثار على أن مدة هذه الأمة تزيد على الألف سنة، ولا تبلغ الزيادة خمسمائة سنة أصلا، وإنما تزيد بنحو أربعمائة سنة تقريبا وما اشتهر على ألسنة الناس أن النبي ﷺ لا يمكث في قبره أكثر من ألف سنة باطل لا أصل له، هذا كلامه. وقوله لا تبلغ الزيادة خمسمائة سنة، هل يخالفه ما أخرجه أبو داود «لن يعجز الله أن يؤخر هذه الأمة نصف يوم يعني خمسمائة سنة ».
وفي كلام بعضهم قد أكثر المنجمون في تقدير مدة الدنيا. فقال بعضهم عمرها سبعة آلاف سنة بعدد النجوم السيارة أي وهي سبعة. وبعضهم اثنا عشر ألف سنة بعدد البروج. وبعضهم بثلثمائة ألف وستون ألفا بعدد درجات الفلك، وكلها تحكمات عقلية لا دليل عليها.
وفي كلام الشيخ محيي الدين بن العربي: أكمل الله خلق الموجودات من الجمادات والنباتات والحيوان بعد انتهاء خلق العالم الطبيعي بإحدى وسبعين ألف سنة، ثم خلق الله الدنيا بعد أن انقضى من مدة خلق العالم الطبيعي أربع وخمسون ألف سنة. ثم خلق الله تعالى الآخرة يعني الجنة والنار بعد الدنيا بتسعة آلاف سنة، ولم يجعل الله تعالى للجنة والنار أمدا ينتهي إليه بقاؤهما فلهما الدوام. قال: وخلق الله تعالى طينة آدم بعد أن مضى من عمر الدنيا سبع عشرة ألف سنة، ومن عمر الآخرة التي لا نهاية لها في الدوام ثمانية آلاف سنة وخلق الله تعالى الجان في الأرض قبل آدم بستين ألف سنة: أي ولعل هذا هو المعنى بقول بعضهم: خلق الله قبل آدم خلقا في صورة البهائم، ثم أماتهم قبل، وهم الجن والبن والطم والرم و الحس والبس فأفسدوا في الأرض وسفكوا الدماء كما سيأتي.
قال الشيخ محيي الدين: وقد طفت بالكعبة مع قوم لا أعرفهم، فقال لي واحد منهم: أما تعرفني؟ فقلت لا، قال: أنا من أجدادك الأول، فقلت له: كم لك منذ مت؟ قال لي بضع وأربعون ألف سنة فقلت: ليس لآدم هذا القدر من السنين، فقال لي: عن أي آدم تقول عن هذا الأقرب إليك، أم عن غيره؟ فتذكرت حديثا روي عن النبي «إن الله خلق مائة ألف آدم» فقلت: قد يكون ذلك الجد الذي نسبني إليه من أولئك، والتاريخ في ذلك مجهول مع حدوث العالم بلا شك هذا كلامه.
وفي كلام الشيخ عبد الوهاب الشعراني: وكان وهب بن منبه يقول: سأل بنو إسرائيل المسيح أن يحيي لهم سام بن نوح عليهما الصلاة والسلام، فقال: أروني قبره، فوقف على قبره وقال: يا سام قم بإذن الله تعالى، فقام وإذا رأسه ولحيته بيضاء، فقال إنك مت وشعرك أسود، فقال: لما سمعت النداء ظننت أنها القيامة فشاب رأسي ولحيتي الآن، فقال له عيسى : كم لك من السنين ميت؟ قال خمسة آلاف سنة، إلى الآن لم تذهب عني حرارة طلوع روحي.
وسبب الاختلاف فيما بين عدنان وآدم أن قدماء العرب لم يكونوا أصحاب كتب يرجعون إليها، وإنما كانوا يرجعون إلى حفظ بعضهم من بعض، ولعله لا يخالفه ما تقدم من أن أول من كتب معد أو نزار.
وفي كلام سبط ابن الجوزي أن سبب الاختلاف المذكور اختلاف اليهود، فإنهم اختلفوا اختلافا متفاوتا فيما بين آدم ونوح وفيما بين الأنبياء من السنين. قال ابن عباس : لو شاء رسول الله ﷺ أن يعلمه لعلمه: أي لو أراد أن يعلم ذلك للناس لعلمه لهم، وهذا أولى من يعلمه بفتح الياء وسكون العين.
وذكر ابن الجوزي أن بين آدم ونوح شيئا وإدريس، وبين نوح وإبراهيم هود وصالح، وبين إبراهيم وموسى بن عمران إسماعيل وإسحاق ولوط وهو ابن أخت إبراهيم وكان كاتبا لإبراهيم، وشعيب وكان يقال له خطيب الأنبياء ويعقوب ويوسف، ولد يوسف ليعقوب، وله من العمر إحدى وتسعون سنة، وكان فراقه له وليوسف من العمر ثماني عشرة سنة وبقيا مفترقين إحدى وعشرين سنة، وبقيا مجتمعين بعد ذلك سبع عشرة سنة هذا.
وفي الإتقان: ألقي يوسف في الجب وهو ابن ثنتي عشرة سنة، ولقي أباه بعد الثمانين، وعاش مائة وعشرين سنة، وكان كاتبا للعزيز.
قيل وسبب الفرقة بين سيدنا يعقوب وسيدنا يوسف عليهما السلام أن سيدنا يعقوب ذبح جديا بين يدي أمه فلم يرض الله تعالى له ذلك، فأراه دما بدم، وفرقة بفرقة، وحرقة بحرقة، وموسى بن عمران بن منشاء. وبين موسى بن عمران وهو أول أنبياء بني إسرائيل وداود يوشع، وكان يوشع كهراون يكتب لموسى. ويذكر أن مما أوصى به داود ولده سليمان عليهما السلام لما استخلفه: يا بني إياك والهزل فإن نفعه قليل، ويهيج العداوة بين الإخوان، أي ومن ثم قيل: لا تمازح الصبيان فتهون عليهم، ولا تمازح الشريف فيحقد عليك ولا تمازح الدنيء فيجترىء عليك، ولكل شيء بذر، وبذر العداوة المزاح.
وقد قيل المزاح يذهب بالمهابة ويورث الضغينة. وقيل آكد أسباب القطيعة المزاح.
وقد قيل: من كثر مزاحه لم يخل من استخفاف به أو حقد عليه، واقطع طمعك من الناس فإن ذلك هو الغنى. وإياك وما تعتذر فيه من القول أو الفعل، وعود لسانك الصدق، والزم الإحسان ولا تجالس السفهاء، وإذا غضبت فالصق نفسك بالأرض: أي وقد جاء في الحديث «إذا جهل على أحدكم جاهل، فإن كان قائما جلس، وإن كان جالسا فليضطجع».
وممن مات من الأنبياء فجأة داود وولده سليمان وإبراهيم الخليل عليهم أفضل الصلاة والسلام، ثم بعد يوشع كالب بن يوفنا، وهو خليفة يوشع، ثم حزقيل وهو خليفة كالب، ويقال له ابن العجوز لأن أمه سألت الله تعالى أن يرزقها ولدا بعد ما كبرت وعقمت فجاءت به، وهو ذو الكفل لأنه تكفل بسبعين نبيا وأنجاهم من القتل.
وإلياس ثم طاولت الملك: أي فإن شمويل لما حضرته الوفاة سأله بنو إسرائيل أن يقيم فيهم ملكا فأقام فيهم طالوت ملكا، ولم يكن من أعيانهم بل كان راعيا، وقيل سقاء، وقيل غير ذلك. وبين داود وعيسى عليهما السلام وهو آخر أنبياء بني إسرائيل: أيوب ثم يونس ثم شعياء ثم أحصياء ثم زكرياء ويحيى عليهم السلام.
وفي النهر لأبي حيان في تفسير قوله تعالى {ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل} كان بينه وبين عيسى من الرسل يوشع وشمويل وشمعون وداود وسليمان وشعياء وأرمياء وعزير: أي وهو من أولاد هرون بن عمران، وحزقيل وإلياس ويونس وزكرياء ويحيى. وكان بين موسى وعيسى ألف نبي، هذا كلامه، وكان يحيى يكتب لعيسى، وتقدم الكلام على من بين عيسى ومحمد.
ومما يدل على شرف هذا النسب وارتفاع شأنه وفخامته وعلو مكانه ما جاء عن سعد بن أبي وقاص قال «قيل يا رسول الله قتل فلان لرجل من ثقيف، فقال أبعده الله، إنه كان يبغض قريشا».
وفي الجامع الصغير «قريش صلاح الناس، ولا يصلح الناس إلا بهم، كما أن الطعام لا يصلح إلا بالملح، قريش خالصة لله تعالى، فمن نصب لها حربا سلب، ومن أرادها بسوء خزي في الدنيا والآخرة ».
قال: وعن سعد بن أبي وقاص أيضا أن رسول الله ﷺ قال: «من يرد هوان قريش أهانه الله تعالى» اهـ أي وأشد الإهانة ما كان في الآخرة، وحينئذ إما أن يراد بالإرادة العزم والتصميم، أو المراد المبالغة، أو يكون ذلك من خصائص قريش، فلا ينافي أن حكم الله المطرد في عدله أن لا يعاقب على مجرد الإرادات، إنما يعاقب ويجازي على الأفعال والأقوال الواقعة، أو ما هو منزل منزلة الواقعة كالتصميم، فإن من خصائص هذه الأمة عدم مؤاخذتها بما تحدث به نفسها.
وعن أم هانىء بنت أبي طالب «أن رسول الله ﷺ فضل قريشا» أي ذكر تفضيلهم «بسبع خصال لم يعطها أحد قبلهم، ولا يعطاها أحد بعدهم: النبوة فيهم، والخلافة فيهم، والحجابة فيهم، والسقاية فيهم، ونصروا على الفيل» أي على أصحابه «وعبدوا الله سبع سنين» وفي لفظ عشر سنين «لم يعبده أحد غيرهم، ونزلت فيهم سورة من القرآن لم يذكر فيها أحد غيرهم لإيلاف قريش» وتسمية لإيلاف قريش سورة يرد ما قيل إن سورة الفيل ولإيلاف قريش سورة واحدة، ولينظر ما معنى عبادتهم الله تعالى دون غيرهم في تلك المدة.
وعن أنس «حب قريش إيمان وبغضهم كفر».
وعن أبي هريرة «الناس تبع لقريش، مسلمهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبع لكافرهم» وقال «العلم في قريش» أي وقال «الأئمة من قريش» وقد جمع الحافظ ابن حجر طرق هذا الحديث في كتاب سماه (لذة العيش في طرق حديث «الأئمة من قريش»).
وفي الحديث «عالم قريش يملأ طباق الأرض علما» وفي رواية «لا تسبوا قريشا فإن عالمها يملأ الأرض علما» وفي رواية «اللهم اهد قريشا فإن عالمها يملأ طباق الأرض علما» قال جماعة من الأئمة منهم الإمام أحمد: هذا العالم هو الشافعي ، لأنه لم ينتشر في طباق الأرض من علم عالم قريشي من الصحابة وغيرهم ما انتشر من علم الشافعي.
وفي كلام بعضهم: ليس في الأئمة المتبوعين في الفروع قرشي غيره. وفيه أن الإمام مالك بن أنس من قريش. ويجاب بأنه إنما يكون قرشيا على القول الباطل من أن جماع قريش قصي.
وقد ذكر السبكي أنهم ذكروا أن من خواص الشافعي من بين الأئمة أن من تعرض إليه أو إلى مذهبه بسوء أو نقص هلك قريبا، وأخذوا ذلك من قوله «من أهان قريشا أهانه الله تعالى» هذا كلامه. قال الحافظ العراقي: إسناد هذا الحديث يعني «لا تسبوا قريشا فإن عالمها يملأ الأرض علما» لا يخلو عن ضعف، وبه يرد ما زعمه الصغائي من أنه موضوع، وحاشا الإمام أحمد أن يحتج بحديث موضوع أو يستأنس به على فضل الشافعي.
وقال ابن حجر الهيتمي: هو حديث معمول به في مثل ذلك أي في المناقب، وزعم وضعه حسد أو غلط فاحش: أي وعن الربيع قال: رأيت في المنام كأن آدم مات، فسألت عن ذلك؟ فقيل لي هذا موت أعلم أهل الأرض، لأن الله علم آدم الأسماء كلها، فما كان إلا يسير حتى مات الشافعي ورضي عنا به.
ومما يؤثر عن إمامنا الشافعي : من أطراك في وجهك بما ليس فيك فقد شتمك، ومن نقل إليك نقل عنك، ومن نمّ عندك نم عليك، ومن إذا أرضيته قال فيك ما ليس فيك إذا أسخطته قال فيك ما ليس فيك. وقال «قدموا قريشا ولا تقدموها» أي لا تتقدموها. وفي رواية «ولا تعالموها: أي لا تغالبوها بالعلم ولا تكاثروها فيه». وفي رواية «ولا تعلموها» أي لا تجعلوها في المقام الأدنى الذي هو مقام المتعلم بالنسبة للمعلم. وقال «أحبوا قريشا، فإنه من أحبهم أحبه الله تعالى» وقال «لولا أن تبطر قريش لأخبرتها بالذي لها عند الله ».
وفي السنن المأثورة عن إمامنا الشافعي رواية المزني عنه. قال الطحاوي: حدثنا المزني قال: حدثنا الشافعي «أن قتادة بن النعمان وقع بقريش وكأنه نال منهم، فقال رسول الله ﷺ: مهلا يا قتادة لا تشتم قريشا فإنك لعلك ترى منهم رجالا إذا رأيتهم عجبت بهم، لولا أن تطغى قريش لأخبرتها بالذي لها عند الله تعالى» أي لولا أنها إذا علمت ما لها عند الله من الخير المدخر لها تركت العمل، بل ربما ارتكبت ما لا يحل اتكالا على ذلك لأعلمتها به، لكن في رواية «لأخبرتها بما لمحسنها عند الله من الثواب». وهذا دليل على علو منزلتها وارتفاع قدرها عند الله تعالى. وقال يوما «يا أيها الناس إن قريشا أهل أمانة، من بغاها العواثر» أي من طلب لها المكايد «أكبه الله تعالى لمنخريه» أي أكبه الله على وجهه «قال ذلك ثلاث مرات» وعن سيدنا عمر أنه كان بالمسجد فمر عليه سعيد بن العاص فسلم عليه، فقال له: والله يا ابن أخي ما قتلت أباك يوم بدر، وما لي أن أكون أعتذر من قتل مشرك، فقال له سعيد بن العاص: لو قتلته كنت على الحق وكان على الباطل، فعجب عمر من قوله وقال: قريش أفضل الناس أحلاما، وأعظم الناس أمانة، ومن يرد بقريش سوءا يكبه الله لفيه. هذا كلامه.
والذي قتل العاص والد سعيد علي بن أبي طالب ، وقيل سعد بن أبي وقاص ، فعن سعد بن أبي وقاص قال: قتلت يوم بدر العاص وأخذت سيفه ذا الكثيفة وقال «شرار قريش خير شرار الناس» وفي رواية «خيار قريش خيار الناس، وشرار قريش شرار الناس» أي ولعله سقط من هذه الرواية قبل شرار الثانية لفظ خيار لتوافق الرواية قبلها المقتضي لذلك المقام. ويحتمل إبقاء ذلك على ظاهره لأنه ممن يقتدى به. فكانوا أشر الأشرار، ويكون هذا هو المراد بوصفهم بأنهم خيار شرار الناس.
ثم رأيت في كتاب السنن المأثورة عن إمامنا الشافعي ما رواه المزني عنه «خيار قريش خيار الناس، وشرار قريش خيار شرار الناس» وفي الحديث «ولاة هذا الأمر، فبر الناس تبع لبرهم، وفاجرهم تبع لفاجرهم» ومن ثم قال الطحاوي: قريش أهل أمانة، هكذا قرأه علينا المزني أهل أمانة أي بالنون، وإنما هو أهل إمامة أي بالميم. وفي كلام فقهائنا «قريش قطب العرب وفيهم الفتوة ».
ومما يدل على شرف هذا النسب أيضا ما جاء عن عمرو بن العاص «إن الله اختار العرب على الناس، واختارني على من أنا منه من أولئك العرب» وما جاء عن وائلة بن الأسقع قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن الله اصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم».
أقول: وجاء بلفظ آخر عن وائلة بن الأسقع وهو «إن الله اصطفى من ولد آدم إبراهيم عليهما السلام. واتخذه خليلا، واصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، ثم اصطفى من ولد إسماعيل نزارا، ثم اصطفى من ولد نزار مضر، ثم اصطفى من ولد مضر كنانة، ثم اصطفى من كنانة قريشا، ثم اصطفى من قريش بني هاشم، ثم اصطفى من بني هاشم بني عبد المطلب ثم اصطفاني من بني عبد المطلب» والله أعلم. قال وفي رواية «إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم».
وما جاء عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: قال رسول الله «أتاني جبريل فقال لي: يا محمد إن الله بعثني فطفت شرق الأرض ومغربها وسهلها وجبلها، فلم أجد حيا خيرا من مضر، ثم أمرني فطفت في مضر فلم أجد حيا خيرا من كنانة، ثم أمرني فطفت في كنانة فلم أجد حيا خيرا من قريش، ثم أمرني فطفت في قريش فلم أجد حيا خيرا من بني هاشم. ثم أمرني أن أختار في أنفسهم» أي أختار نفسا من أنفسهم «فلم أجد نفسا خيرا من نفسك» انتهى.
وفي الوفاء عن ابن عباس في قوله تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} قال: ليس من العرب قبيلة إلا ولدت النبي ﷺ مضرها وربيعتها ويمانيها. وعن ابن عمر قال: قال رسول الله «إن الله خلق الخلق فاختار من الخلق بني آدم، واختار من بني آدم العرب، واختار من العرب مضر، واختار من مضر قريشا، واختار من قريش بني هاشم، واختارني من بني هاشم، فأنا خيار من خيار إلى خيار» انتهى. وقوله واختار من مضر قريشا يدل على أن مضر ليس جماع قريش وإلا كانت أولاده كلها قريشا.
وعن أبي هريرة يرفعه بسند حسنه الحافظ العراقي «إن الله حين خلق الخلق بعث جبريل فقسم الناس قسمين: قسم العرب قسما، وقسم العجم قسما، وكانت خيرة الله في العرب. ثم قسم العرب إلى قسمين، فقسم اليمن قسما وقسم مضر قسما وكانت خيرة الله في مضر، وقسم مضر قسمين فكانت قريش قسما وكانت خيرة الله في قريش، ثم أخرجني من خيار من أنا فيه».
قال بعضهم: وما جاء في فضل قريش فهو ثابت لبني هاشم والمطلب، لأنهم أخص وما ثبت للأعم يثبت للأخص ولا عكس.
وفي الشفاء عن ابن عباس قال: قال رسول الله «إن الله سبحانه وتعالى قسم الخلق قسمين فجعلني من خيرهم قسما فذلك قوله تعالى: {أصحاب اليمين وأصحاب الشمال} فأنا من أصحاب اليمين، وأنا خير أصحاب اليمين. ثم جعل القسمين أثلاثا فجعلني في خيرها ثلثا، فذلك قوله تعالى {فأصحاب الميمنة ـ وأصحاب المشأمة ـ والسابقون السابقون} فأنا خير السابقين ثم جعل الأثلاث قبائل فجعلني من خيرها قبيلة، وذلك قوله تعالى: {وجعلناكم شعوبا وقبائل} الآية فأنا أبر ولد آدم وأكرمهم على الله تعالى ولا فخر، وجعل القبائل بيوتا فجعلني في خيرها بيتا ولا فخر، فذلك قوله تعالى: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت} الآية » هذا كلام الشفاء، فليتأمل. وإلى شرف هذا النسب يشير صاحب الهمزية بقوله:
وبدا للوجود منك كريم ** من كريم آباؤه كرماء
نسب تحسب العلا بحلاه ** قلدتها نجومها الجوزاء
حبذا عقد سودد وفخار ** أنت فيه اليتيمة العصماء
أي ظهر لهذا العالم منك كريم: أي جامع لكل صفة كمال، وهذا على حد قولهم: لي من فلان صديق حميم، وذلك الكريم الذي ظهر وجد من أب كريم سالم من نقص الجاهلية آباؤه الشامل للأمهات جميعهم كرماء: أي سالمون من نقائص الجاهلية: أي ما يعد في الإسلام نقصا من أوصاف الجاهلية، وهذا نسب لا أجل منه، ولجلالته إذا تأملته تظن بسبب ما تحلى به من الكمالات: أي معاليها جعلت الجوزاء نجومها التي يقال لها نطاق الجوزاء قلادة لتلك المعالي، وهذه القلادة نعم هي قلادة سيادة وتمدح موصوفة بأنك في تلك القلادة الدرة اليتيمة التي لا مشابه لها المحفوظة عن الأعين لجلالتها.
لا يقال: شمول الآباء للأمهات لا يناسب قوله نسب، لأن النسب الشرعي في الآباء خاصة. لأنا نقول: المراد بالنسب ما يعم اللغوي أو قد يقال سلامة آبائه من النقائص إنما هو من حيث أبيه: أي كونه متفرعا عنه، وذلك يستلزم أن تكون أمهاته كذلك، وسيأتي «لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات» وسيأتي الكلام على ذلك مستوفى.
وقال الماوردي في كتاب (أعلام النبوة): وإذا اختبرت حال نسبه وعرفت طهارة مولده علمت أنه سلالة آباء كرام ليس فيهم مستزل، بل كلهم سادة قادة، وشرف النسب وطهارة المولد من شروط النبوة، هذا كلامه ومن كلام عمه أبي طالب:
إذا اجتمعت يوما قريش لمفخر ** فعبد مناف سرها وصميمها
وإن حصلت أنساب عبد منافها ** ففي هاشم أشرافها وقديمها
وإن فخرت يوما فإن محمدا ** هو المصطفى من سرها وكريمُها
بالرفع عطفا على المصطفى، وسر القوم: وسطهم، فأشرف القوم قومه، وأشرف القبائل قبيلته، وأشرف الأفخاذ فخذه.
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله: «من أحب العرب فبحبي أحبهم، ومن أبغض العرب فببغضي أبغضهم».
وعن سلمان الفارسي قال قال لي رسول الله: «يا سلمان لا تبغضني فتفارق دينك، قلت يا رسول الله كيف أبغضك وبك هداني الله تعالى؟ قال: تبغض العرب فتبغضني».
وعن علي قال: قال لي رسول الله: «لا يبغض العرب إلا منافق».
وفي الترمذي عن عثمان بن عفان أن رسول الله ﷺ قال: «من غش العرب لم يدخل في شفاعتي ولم تنله مودتي» قال الترمذي: هذا حديث غريب، وقال «ألا من أحب العرب فبحبي أحبهم، ومن أبغض العرب فببغضي أبغضهم» وقال: «أحبوا العرب لثلاث: لأني عربي، والقرآن عربي، وكلام أهل الجنة عربي» وقال: «إن لواء الحمد يوم القيامة بيدي وإن أقرب الخلق من لوائي يومئذ العرب» وقال: «إذا ذلت العرب ذل الإسلام» وفي كلام فقهائنا: العرب أولى الأمم، لأنهم المخاطبون أولا والدين عربي.
وعن ابن عباس «خير العرب مضر، وخير مضر عبد مناف، وخير بني عبد مناف بنو هاشم، وخير بني هاشم بنو عبد المطلب، والله ما افترق فرقتان منذ خلق الله تعالى آدم إلا كنت في خيرهما».
أقول: وفي لفظ آخر عن ابن عباس قال: قال رسول الله: «إن الله حين خلقني جعلني من خير خلقه، ثم حين خلق القبائل جعلني من خيرهم قبيلة، وحين خلق الأنفس جعلني من خير أنفسهم، ثم حين خلق البيوت جعلني من خير بيوتهم، فأنا خيرهم بيتا وأنا خيرهم نسبا» وفي لفظ آخر عنه قال: قال رسول الله «إن الله قسم الخلق قسمين، فجعلني في خيرهم قسما، ثم جعل القسمين أثلاثا فجعلني في خيرها ثلثا، ثم جعل الثلث قبائل فجعلني في خيرها قبيلة، ثم جعل القبائل بيوتا فجعلني في خيرها بيتا» وتقدم عن الشفاء مثل ذلك مع زيادة الاستدلال بالآيات، وتقدم الأمر بالتأمل في ذلك، والله أعلم. وفيه أنه ورد النهي في الأحاديث الكثيرة عن الانتساب إلى الآباء في الجاهلية على سيبل الافتخار، من ذلك «لا تفتخروا بآبائكم الذين ماتوا في الجاهلية، فوالذي نفسي بيده ما يدحرج الجعل بأنفه خير من آبائكم الذين ماتوا في الجاهلية » أي والذي يدحرجه الجعل وهو النتن. وجاء في الحديث «ليدعن الناس فخرهم في الجاهلية. أو ليكونن أبغض إلى الله تعالى من الخنافس» وجاء «آفة الحسب الفخر» أي عاهة الشرف بالآباء التعاظم بذلك.
وأجاب الإمام الحليمي بأنه لم يرد بذلك الفخر، إنما أراد تعريف منازل أولئك ومراتبهم: أي ومن ثم جاء في بعض الروايات قوله ولا فخر: أي فهو من التعريف بما يجب اعتقاده وإن لزم منه الفخر، وهو أشار إلى نعمة الله تعالى عليه، فهو من التحدث بالنعمة وإن لزم من ذلك الفخر أيضا. وعن ابن عباس «في قوله تعالى: {وتقلبك في الساجدين} قال: من نبي إلى نبي حتى أخرجت نبيا» أي وجدت الأنبياء في آبائه فسيأتي «أنه قذف بي في صلب آدم، ثم في صلب نوح، ثم في صلب إبراهيم عليهما الصلاة والسلام» بدليل ما يأتي فيه. وفي لفظ آخر عنه «ما زال النبي ﷺ يتقلب في أصلاب الأنبياء» أي المذكورين أو غيرهم «حتى ولدته أمه» أي وهذا كما لا يخفى لا ينافي وقوع من ليس نبيا في آبائه، فالمراد وقوع الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم في نسبه كما علمت، ضرورة أن آباءه كلهم ليسوا أنبياء، لكن قال غيره: لا زال نوره ينقل من ساجد إلى ساجد. قال أبو حيان: واستدل بذلك، أي بما ذكر من الآية المذكورة: أي المفسرة بما ذكر الرافضة على أن آباء النبي ﷺ كانوا مؤمنين: أي لأن الساجد لا يكون إلا مؤمنا، فقد عبر عن الإيمان بالسجود، وسيأتي مزيد الكلام في ذلك، وهو استدلال ظاهري، وإلا فالآية قيل معناها وتصفحك أحوال المتهجدين من أصحابك لأنه لما نسخ فرض قيام الليل عليه وعليهم بناء على أنه كان واجبا عليه وعلى أمته وهو الأصح.
وعن ابن عباس أنه كان واجبا على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبله «طاف تلك الليلة على بيوت أصحابه لينظر حالهم» أي هل تركوا قيام الليل لكونه نسخ وجوبه بالصلوات الخمس ليلة المعراج حرصا على كثرة طاعتهم فوجدها كبيوت الزنابير: أي لأن الله افترض عليه: أي وعلى أمته قيام الليل أو نصفه أو أقل أو أكثر في أول سورة المزمل، ثم نسخ ذلك في آخر السورة بما تيسر: أي وكان نزول ذلك بعد سنة، ثم نسخ ذلك بالصلوات الخمس ليلة المعراج كما سيأتي. وجعل بعضهم ذلك من نسخ الناسخ فيصير منسوخات، لما علمت أن آخر هذه السورة ناسخ لأولها ومنسوخ بفرض الصلوات الخمس.
واعترض بأن الأخبار دالة على أن قوله تعالى: {فاقرؤوا ما تيسر من القرآن} إنما نزل بالمدينة يدل على ذلك قوله تعالى: {علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله} لأن القتال في سبيل الله إنما كان بالمدينة، فقوله تعالى: {فاقرؤوا ما تيسر} اختيار لا إيجاب.
وقيل معنى {وتقلبك في الساجدين} وتقلبك في أركان الصلاة قائما وقاعدا وراكعا وساجدا في الساجدين: أي في المصلين، ففي الساجدين ليس متعلقا بتقلبك بل بساجد المحذوف.
لا يقال: يعارض جعل الساجدين عبارة عن المؤمنين أن من جملة آبائه آزر والد إبراهيم الخليل صلى الله على نبينا وعليه وسلم وكان كافرا.
لأنا نقول: أجمع أهل الكتاب على أن آزر كان عمه، والعرب تسمي العم أبا كما تسمي الخالة أما فقد حكى الله عن يعقوب أنه قال: «آبائي إبراهيم وإسماعيل» ومعلوم أن إسماعيل إنما هو عمه. أي ويدل لذلك أن أبا إبراهيم كان اسمه تارخ بالمثناة فوق والمعجمة كما عليه جمهور أهل النسب، وقيل بالمهملة وعليه اقتصر الحافظ في الفتح لا آزر، لكن ادعى بعضهم أنه لقب له، لأن آزر اسم صنم كان يعبده فصار له اسمان: آزر وتارخ كيعقوب وإسرائيل.
قال بعضهم: وقد تساهل من أخذ بظاهر الآية كالقاضي البيضاوي وغيره فقال: إن أبا إبراهيم مات على الكفر وما قيل إنه عمه فعدول عن الظاهر من غير دليل.
ويوافقه ما في النهر نقلا عن ابن عباس أن آزر كان اسم ابيه، ويرد ذلك قول الحافظ السيوطي : يستنبط من قول إبراهيم {ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم الحساب} وكان ذلك بعد موت عمه بمدة طويلة، أن المذكور في القرآن بالكفر والتبري من الاستغفار له: أي في قوله تعالى: {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه} هو عمه لا أبوه الحقيقي. قال: فللّه الحمد على ما ألهم: أي ولا يخفى أن هذا لايتم إلا إذا كان أبوه الحقيقي حيا وقت التبري منه، وأن التبري سببه الموت: أي موت عمه على الكفر لا الوحي بأنه يموت كافرا فليتأمل، وحينئذ يكون أبوه الحقيقي هو المعني بقول أبي هريرة: أحسن كلمة قالها أبو إبراهيم. أن قال لما رأى ولده وقد ألقي في النار أي على تلك الحالة أي في روضة خضراء وحوله النار: لم تحرق منه إلا كتافه نعم الرب ربك يا إبراهيم، وكان سنه حين ألقي في النار ست عشرة سنة كما في الكشاف. وفي كلام غيره كان سنه ثلاثين سنة بعد ما سجن ثلاث عشرة سنة.
وعن ابن عباس قال: «إن قريشا كانت نورا بين يدي الله تعالى قبل أن يخلق آدم بألفي عام يسبح ذلك النور وتسبح الملائكة بتسبيحه فلما خلق الله تعالى آدم ألقى ذلك النور في صلبه، قال: فأهبطني الله تعالى إلى الأرض في صلب آدم، وجعلني في صلب نوح، وقذفني في صلب إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، ثم لم يزل ينقلني من الأصلاب الكريمة والأرحام الطاهرة حتى أخرجني من بين أبوي لم يلتقيا على سفاح قط».
أقول: قوله: «فأهبطني» ينبغي أن لا يكون معطوفا على ما قبله من قوله: «إن قريشا كانت نورا بين يدي الله تعالى الخ» فيكون نوره من جملة نور قريش، وإنه انفرد عن نور قريش وأودع في صلب نوح الخ، بل على ما يأتي من قوله: «كنت نورا بين يدي ربي قبل خلق آدم بأربعة عشر ألف عام» اللازم لذلك أن يكون نوره سابقا على نور قريش، ويكون نور قريش من نوره.
وحكمة اقتصاره على من ذكر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا تخفى. وهي أنهم آباء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فمن ذرية نوح هود وصالح عليهما الصلاة والسلام، ومن ذرية إبراهيم إسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وشعيب وموسى وهارون بناء على أنه شقيق موسى أو لأبيه وإلا فسيأتي أن نوره انتقل إلى شيث، وتقدم أنه من ذرية إسماعيل.
وعن علي بن الحسين عن أبيه عن جده أن النبي ﷺ قال: «كنت نورا بين يدي ربي قبل خلق آدم بأربعة عشر ألف عام» ورأيت في كتاب التشريفات في الخصائص والمعجزات لم أقف على اسم مؤلفه، عن أبي هريرة «أن رسول الله ﷺ سأل جبريل فقال يا جبريل كم عمرت من السنين؟ فقال يا رسول الله لست أعلم، غير أن في الحجاب الرابع نجما يطلع في كل سبعين ألف سنة مرة، رأيته اثنين وسبعين ألف مرة فقال: «يا جبريل وعزة ربي جل جلاله أنا ذلك الكوكب» رواه البخاري، هذا كلامه، فلما خلق الله آدم جعل ذلك النور في ظهره: أي فهو حالة كونه نورا سابق على قريش حالة كونها نورا، بل سيأتي ما يدل على أن نوره سابق على سائر المخلوقات، بل وتلك المخلوقات خلقت من ذلك النور آدم وذريته وحينئذ يحتاج إلى بيان وجه كون آدم خلق من نوره، وجعل نوره في ظهر آدم ، فقد تقدم في الخبر «لما خلق الله تعالى آدم جعل ذلك النور في ظهره» أي فكان يلمع في جبينه فيغلب على سائر نوره الخ ما يأتي، ثم انتقل إلى ولده شيث الذي هو وصيه، وكان من جملة ما أوصاه به أنه يوصي من انتقل إليه ذلك النور من ولده أنه لا يضع ذلك النور الذي انتقل إليه إلا في المطهرة من النساء، ولم تزل هذه الوصية معمولا بها في القرون الماضية إلى أن وصل ذلك النور إلى عبد المطلب: أي وهذا السياق يدل على أن ذلك النور كان ظاهرا فيمن ينتقل إليه من آبائه، وهو قد يخالف ما تقدم من تخصيص بعض آبائه بذلك، ولم تلد حواء ولدا مفردا إلا شيئا كرامة لهذا النور، قيل مكث في بطنها حتى نبتت أسنانه وكان ينظر إلى وجهه من صفاء بطنها وهو الثالث من ولد آدم ، وكانت تلد ذكرا وأنثى معا: أي فقد قيل إنها ولدت لآدم أربعين ولدا في عشرين بطنا، وقيل ولدت مائة وعشرين ولدا، وقيل مائة وثمانين ولدا، وقيل خمسمائة. ويقال إن آدم لما مات بكى عليه من ولده وولد ولده أربعون ألفا، ولم يحفظ من نسل آدم إلا ما كان من صلب شيث دون إخوته: أي فإنهم لم يعقبوا أصلا فهو أبو البشر.
وعن جابر بن عبد الله رضي تعالى عنهما قال: «قلت يا رسول الله بأبي أنت وأمي أخبرني عن أول شيء خلقه الله تعالى قبل الأشياء؟ قال: يا جابر إن الله تعالى قد خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره» الحديث، وفيه أنه أصل لكل موجود، والله سبحانه وتعالى أعلم.
واختلف الناس في عد طبقات أنساب العرب وترتيبها، والذي في الأصل عن الزبير بن بكار أنها ست طبقات، وأن أولها شعب، ثم قبيلة، ثم عمارة بكسر العين المهملة، ثم بطن، ثم فخذ، ثم فصيلة قال: وقد نظمها الزين العراقي في قوله:
للعرب العربا طباق عدة ** فصلها الزبير وهي ستة
أعم ذاك الشعب فالقبيلة ** عمارة بطن فخذ فصيلة
أي فالشعب أصل القبائل، والقبيلة أصل العمارة، والعمارة أصل البطون، والبطن أصل الفخذ، والفخذ أصل الفصيلة، فيقال: مضر شعب رسول الله ﷺ: أي وقيل شعبه خزيمة، وكنانة قبيلته، وقريش عمارته، وقصي بطنه، وهاشم فخذه، وبنو العباس فصيلته. وقيل بعد الفصيلة العشيرة، وليس بعد العشيرة شيء. وقيل بعدها الفصيلة قال: ثم الرهط. وزاد بعضهم الذرية والعترة والأسرة، ولم يرتب بينها. وقد ذكرها محمد بن سعد اثني عشر فقال: الجذم، ثم الجمهور، ثم الشعب، ثم القبيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم العشيرة، ثم الفصيلة، ثم الرهط، ثم الأسرة، ثم الذرية، وسكت عن العترة.
وفي كلام بعضهم: الأسباط بطون بني إسرائيل، والشعب في لسان العرب: الشجرة الملتفة الكثيرة الأغصان والأوراق، والقبائل بطون العرب والشعوب بطون العجم، فيتأمل.